في حرارة صيف شهر يونيو الشديدة في فترة ما بعد الظهيرة، على أحد أرصفة ميناء جيبوتي التي تعج بالحركة والنشاط، يجلس الوليد في مستظلاً بإحدى الشاحنات، ممدداً يديه لتستريح على ركبتيه ورابطاً على رأسه قطعة قماش مبللة، علّها تلطف حرارة الجو. لا يمكنه أن يشرب أو يأكل أي شيء منذ بزوغ الشمس في الساعة السادسة صباحاً تقريباً.
وصيام شهر رمضان، الذي بدأ في 6 يونيو، مع رؤية قمر جديد، هو فرض ديني على جميع المسلمين. ويستمر الصيام طوال الشهر من الفجر حتى الغسق. إنه شهر شاق على جميع من يصومونه، ولكن بالنسبة للوليد، أحد العاملين في ميناء جيبوتي – الذي يُعد مركزاً تجارياً كبيراً في الطرف الجنوبي للبحر الأحمر، وأحد الممرات الملاحية الأكثر ازدحاماً في العالم- يكون أكثر مشقة.
فالعمل مستمر بلا انقطاع. هنا، يتم شحن الكثير من البضائع من وإلى إثيوبيا، الدولة غير الساحلية المجاورة لجيبوتي. الطلبات القادمة من اقتصاد إثيوبيا المتنامي لا تتوقف، ونظراً لفترة الجفاف التي يشهدها البلد حالياً – وهي الأسوأ منذ عقود – تحتاج السفن المملوءة بالمعونات الغذائية أيضاً للرسو على أرصفة الميناء.
وفي هذ الصدد، أوضح أبو بكر عمر، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لسلطة الموانئ والمناطق الحرة في جيبوتي: "لا تزال هناك الكثير من السفن التي تحمل شحنات المساعدات الإنسانية والأسمدة، في تنتظر دورها ... الاختناق الحادث في الميناء ليس بسبب الميناء، ولكن بسبب النقل البري...لا توجد شاحنات كافية لنقل المساعدات والأسمدة والشحنات التجارية المعتادة".
ومنذ 23 يونيو، توجد 16 سفينة في المرسى بانتظار تفريغ قرابة 609,000 طن متري من القمح والشعير والذرة والأسمدة، بحسب البيانات المنشورة على موقع الميناء على شبكة الإنترنت. وفي الوقت الحالي، هناك أربع سفن تحمل قرابة 128,000 طن متري من القمح والذرة، والأسمدة راسية ويجري تفريغها.
وفي ظل أن نسبة تلف المحاصيل من جرّاء الجفاف تتراوح من 50 إلى 90 بالمائة في بعض أجزاء البلاد، تضطر إثيوبيا، أكبر مستهلك للقمح في أفريقيا جنوب الصحراء، إلى طرح مناقصات دولية وزيادة مشتريات القمح للتخفيف من حدة النقص الغذائي المتزايد.
وبالإضافة إلى اكتظاظ أرصفة الميناء بالسفن، تواجه سلطة الميناء معضلة تتمثل في أولوية المرور. وعن هذه المشكلة، قال عمر:
"إذا أعطينا الأولوية للمعونة الغذائية، وهو أمر مفهوم، ستحدث مشكلة مع المحصول المقبل إذا لم تصل الأسمدة إلى المزارعين في الوقت المناسب".
عمل شاق وجو حار
بمجرد أن ترسو السفن، يبدأ تحدي تفريغها من حمولاتها.
وعن أوضاع العمال الذين يكدون ويكدحون في درجات الحرارة التي تصل إلى 38 درجة مئوية، لكنها مع الرطوبة التي تصل إلى 52 بالمائة، تبدو أنها أكثر من 43 درجة مئوية، قال داويت غبري-اب- أحد المسؤولين في الميناء: "أنا بصراحة لا أعرف كيف يقومون بذلك ... لكن العمل لا بد أن يستمر".
وعلى الرغم من أن نظام العمل في الميناء -الذي يستمر على مدار 24 ساعة، يُقسم إلى ثلاث نوبات كل منها ثماني ساعات- يخفف بعضاً من مشقة شهر رمضان لأولئك الذين يعملون في العراء بعيداً عن مكيفات الهواء، إلا أن العمل يظل شاقاً.
في السياق ذاته، قال أجابي أن "العمل في شهر رمضان شاق" لاسيّما خلال نوبة بعد الظهر الأشد حرارة. وأضاف أجابي، الذي يربط قطعة قماش مضيئة حول جبهته كمنشفة للعرق، وهو يقف متجنباً الشمس بين شاحنات يجري ملؤها عبر سيور ميكانيكية تحمل أكياساً من المواد الغذائية المتجهة إلى إثيوبيا: "نحن نشعر بالتعب في كل مكان. لا شك أننا نعاني".
وقال أجابي، وهو عامل مؤقت، أنه غير صائم بسبب صعوبة العمل في مثل هذا الجو الحار، لكن الغالبية العظمى من عمال الأرصفة متمسكون على ما يبدو بالتعاليم الخاصة بشهر رمضان.
وقال عامل آخر، يُدعى عثمان، وهو يقف بجانب سفينة يتم تفريغها من القمح: "الجميع هنا صائمون". وكان قميصه مبلولاً بالكامل، ومن المستحيل أن تعرف هل تسبب العرق أم الماء في هذا البلل، فالاستخدام المسموح به للماء هو للمساعدة في تبريد الجسم الملتهب خلال صيام شهر رمضان. وأضاف قائلاً: "نحن نتحمل حتى غروب الشمس، لأننا نفعل ذلك تقرباً إلى الله".
سكك حديدية للإغاثة
وقال عمر أن خط السكك الحديدية الجديد، الذي يصل طوله إلى 756 كيلومتراً ويربط بين جيبوتي وإثيوبيا (دخل الخدمة في مطلع نوفمبر 2015 – لكن لم يبدأ العمل به فعلياً) يشمل على تسيير قطار يومي يمكن أن يحمل قرابة 2,000 طن من المعونة الغذائية لتخفيف الضغط على الميناء.
ومن المقرر أن يتم رفع قدرتها بمجرد أن يتم تسليم خط السكة الحديد بشكل تام في شهر سبتمبر وتزويده بالكهرباء، وهو ما يسمح بتسيير خمسة قطارات يمكن أن يحمل كل منها قرابة 3,500 طن.
واكتظاظ السفن في الميناء أكد لإثيوبيا، والأمر لا يحتاج إلى تذكير، اعتمادها على جيبوتي، ذلك أن 90 بالمائة من التجارة في إثيوبيا تمر من خلال هذا الميناء. وفي عام 2005 وصل إجمالي البضائع المطلوب نقلها 2 مليون طن وتبلغ الآن 11 مليون طن. وخلال السنوات الثلاث المقبلة، من المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 15 مليون طن.
ومن ثم، تبحث إثيوبيا منذ وقت طويل سبل تخفيف اعتمادها على جيبوتي، وتعزيز العلاقات الثنائية مع أرض الصومال التي أعلنت استقلاها من جانب واحد وتقع ناحية الشرق، من خلال مذكرات تفاهم متنوعة على مدى العامين الماضيين.
وأحدث هذه التفاهمات ينص على تحويل قرابة 30 بالمائة من واردات إثيوبيا إلى ميناء بربرة، الذي شهد في شهر مايو منح مجموعة موانئ دبي العالمية، ومقرها دبي، امتياز إدارة وتوسيع الميناء الذي لا يستغل بشكل جيد ويفتقر للتطوير، لمدة 30 عاماً. وتصل قيمة المشروع زهاء 442 مليون دولار ويمكن أن يحوِّل ميناء بربرة إلى محور رئيسي آخر للتجارة في منطقة القرن الأفريقي.
غير أن عمر يرى أنه حتى مع استخدام بربرة في رسو السفن في المستقبل، فإن من شأن استمرار مشكلة عدم وجود شاحنات كافية لمواجهة الطلب أن يقود إلى المعضلة نفسها كما هو الحال الآن.
وتشير التقديرات إلى أن هناك 1,500 شاحنة تغادر ميناء جيبوتي إلى إثيوبيا يومياً، وسيرتفع هذا العدد ليصل إلى 8,000 شاحنة في اليوم بحلول عام 2020، حتى مع وجود خط السكك الحديدية الجديد.
مع ذلك، ربما لا تكون هناك حاجة إلى هذا العدد الكبير من الشاحنات الإضافية – عديمة الكفاءة والتي تلحق أضراراً بالبيئة – إذا أمكن تحسين زمن الرحلة اللازمة للأسطول الحالي.
وأضاف عمر أن "الرحلة من مدينة جيبوتي إلى أديس أبابا تستغرق ما بين 36 إلى 48 ساعة، ولكن الشاحنات تستغرق 10 أيام لإتمام عملية التسليم بسبب الجمارك ... لذا فإننا نناقش مع إثيوبيا سبل تسهيل هذه العملية والتقليل من الإجراءات الجمركية".
ومن المعروف أن الإثيوبيين يفتقرون للهمة والسرعة عندما يتعلق الأمر بإنجاز الأعمال الورقية والإجراءات البيروقراطية. وقد تأخرت عمليات الإغاثة من الجفاف بسبب التقييمات الدورية التي تقوم بها الحكومة لأكثر الناس احتياجاً، وفقاً لبعض وكالات المعونة العاملة في إثيوبيا.
تكامل القرن الأفريقي
وفي حين أن مشكلات ازدحام شحنات المعونة الغذائية في الميناء تبرز العقبات اللوجستية، فإن الاتجاه العام تجاه زيادة التجارة والروابط الاستراتيجية بين إثيوبيا وجيبوتي- الذي يشمل أيضاً بناء خطوط سكك حديدية وخط أنابيب لنقل النفط – سيسهم في تحقيق التغيير الذي تحتاجه المنطقة بشدة.
وفي هذا السياق، قال مات برايدن، المحلل السياسي المختص بمنطقة القرن الأفريقي والرئيس التنفيذي لمركز ساهان للبحوث، وهي مؤسسة بحثية مقرها نيروبي: "استخدام إثيوبيا لقوتها الناعمة، بما في ذلك توسيع العلاقات التجارية مع الدول المجاورة لها، وتطوير البنية التحتية الاقتصادية العابرة للحدود، وتبادل الخدمات، يساعد في ربط هذه الأمم معاً بشكل أوثق ويظهر بشكل ملموس فوائد التكامل".
وإذا ما تحدثت إلى بعض رجال الأعمال الإثيوبيين الكثر الذين يعملون في مدينة جيبوتي سيقولون لك أنهم يشعرون أنهم في وطنهم. فهم يقارنوها بمدن إثيوبيا الشرقية مثل داير داوا وجيجيغا، ويرون أن البلدين يعملان بالأساس كدولة واحدة.
من جهته، قال سمير عدن، المستشار بوزارة الاقتصاد والمالية والصناعة في جيبوتي: "هناك تكامل في البنية التحتية بين الدولتين، والكثير من التجارة، كما تعمل الحكومتان على إعداد أجندة مشتركة للتنمية ورؤية طويلة المدى".
ومع غروب الشمس فوق مدينة جيبوتي يتجمع عمال الموانئ الذين انتهوا للتو من نوبات عملهم خارج المدخل لاستقلال الحافلات للعودة إلى أماكن إقامتهم. وعبر المدينة، يتجمع السكان المحليون في الشوارع في شكل مجموعات للإفطار، بعد يوم كامل من الصيام، بتناول التمر والسمبوسة وقطع من الفاكهة.
ومن بعيد وخلف أسطح منازل المدينة، يمكن رؤية قوس من الأضواء المتناثرة عبر المنافذ، التي يستمر توهجها مع تواصل تفريغ حمولات السفن، فيما تتجه الشاحنات المُحمّلة بالبضائع طوال الليل غرباً إلى إثيوبيا في ظلام الليل.
jj/oa/ag-kab/dvh