عندما بلغت إليدا العلي عامها السادس عشر، كانت سجينة في بيتها لأربع سنوات. كانت ذخائر كل من الحكومة ومقاتلي المعارضة تسقط دون سابق إنذار على حي كرم المياسر الذي شهد تنافساً شديداً بين الطرفين بالقرب من مطار حلب، حيث كانت تعيش هي وأسرتها. وعلى أي حال، لم يكن لديها مكان تذهب إليه. فقد كانت جماعات معارضة قد احتلت المدارس في المنطقة منذ أن كان عمرها 13 عاماً.
وفي شهر يناير من العام الماضي، طلبت من والدها أحمد السماح لها بالخروج لشراء بعض رقائق البطاطس. "قلت لها لا بأس، فذهبت إلى متجر على الناصية وعندئذ سقطت القنبلة. عندما سمعت الانفجار، ركضت إلى خارج المنزل فوجدت المكان مغطى بالغبار وابنتي ممزقة إرباً،" كما تذكر.
كان موت إليدا هو القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لهذه الأسرة. كانت زوجة أحمد، رامية الضاهر، قد فقدت بالفعل أختها وثلاثة من أشقائها خلال الحرب. وبعد شهر، تسللت عائلتا العلي والضاهر بالكامل - نحو 41 شخصاً - من حلب تحت جنح الظلام.
"لم نأخذ شيئاً - فقط الملابس التي كنا نرتديها وأوراق هويتنا،" كما قالت رامية. وقطعوا رحلة شاقة لمسافة تربو على 1,000 كيلومتر إلى أزمير على ساحل بحر إيجه في تركيا، ثم عبروا البحر إلى جزيرة ليسفوس اليونانية في زورق مطاطي.
عالقون في اليونان
وكانت أسرة العلي قد فرت من الحرب الأهلية لتسقط في خضم أزمة إنسانية. وصل ما يقدر بنحو 850,000 لاجئ ومهاجر إلى اليونان خلال عام 2015، و150,000 آخرين خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2016. وواصل معظمهم السفر عبر منطقة البلقان إلى شمال أوروبا، حيث كانت الدول الأعضاء تحاول بيأس متزايد وقف هذا التدفق.
ارتفعت الأسوار على حدود اليونان مع جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة قبل ثلاثة أسابيع من وصول أسرة العلي. وتمكنوا من مغادرة ليسفوس قبل يومين من دخول اتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا حيز التنفيذ. كان هذا الاتفاق سيرغمهم على البقاء هناك خلال عملية اللجوء، ولكنهم اضطروا لإلغاء خطتهم للوصول إلى ألمانيا سيراً على الأقدام.
وكانت الحدود المغلقة قد تركت أكثر من 50,000 لاجئ عالقين في البر الرئيسي لليونان، وهو عدد أكبر من أن تأويه السلطات المدنية. وتحت ضغوط من المفوضية الأوروبية، أقام الجيش اليوناني 30 مستوطنة من الخيام في مواقع صناعية وقواعد عسكرية مهجورة في جميع أنحاء البلاد.
وكانت غالبية هذه المخيمات بعيدة عن المراكز الحضرية ويصعب على منظمات الإغاثة الوصول إليها. ونظراً لعدم توفر أي وقت تقريباً لإعداد تلك المواقع، فإنها في البداية كانت تفتقر إلى المرافق الأساسية مثل المياه الجارية والحمامات والتدفئة والكهرباء.
من المستودع إلى المخيم
وفي 17 مارس، وصلت أسرة العلي إلى المكان الذي اضطرت لاعتباره وطناً مؤقتاً طوال الأشهر الستة التالية - وهو مستودع كهفي خلف بوابة 10A في ميناء سالونيك.
"طوال الشهر الأول تقريباً، كنا ننام على الأرض في أكياس النوم التي وزعها علينا الجيش. ثم زارنا رئيس البلدية وطلب من الجيش أن يرسل لنا أسرّة للأطفال،" كما أفاد أحمد.
أمر رئيس البلدية أيضاً بتوفير وحدات تدفئة، ومراحيض متنقلة، وأماكن استحمام، وكهرباء، ولكن بقي نحو 450 شخصاً يتقاسمون مساحة لا توجد بها سوى بطانيات معلقة على حبال لتوفير قدر ضئيل من الخصوصية.
لكن هذه الترتيبات وصلت إلى نهاية مفاجئة عندما اندلع حريق كهربائي في صباح أحد أيام شهر سبتمبر أثناء نوم السكان، وتم إخلاء المستودع ونقل أسرة العلي إلى خيمة في مخيم لانغاديكيا شرق المدينة.
وأضاف أحمد في حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "كان ضوء الشمس يدخل خيمتنا في الساعة السابعة من صباح كل يوم، فنضطر إلى الاستيقاظ. وفي منتصف النهار، كنا نذهب إلى الغابة ونجلس تحت ظلال الأشجار. وعندما جاء فصل الشتاء، أمطرت السماء وبللت الخيمة بأكملها. وتسلل الماء من خلال الأرض ... في بعض الأحيان، كنا نطلب بطانيات جديدة، فيقال لنا لا توجد كمية كافية، ولذلك كنا ننام تحت بطانيات مبللة".
البقاء على قيد الحياة في فصل الشتاء
ولكن الأسوأ لم يكن قد أتى بعد. ففي منتصف ديسمبر، انخفضت درجات الحرارة إلى ما دون الصفر خلال الليل، وفي يناير، تحولت الأمطار إلى ثلوج. حاول سكان المخيم الاحتماء بعدد قليل من المباني الخرسانية المتاحة، "ولكن لم تكن هناك مساحة كافية للجميع،" كما قالت رامية.
كان هناك الكثير من هذه المساحات في اليونان، فقد أدت الأزمة المالية وفرض ضريبة عقارية جديدة في عام 2011 إلى توقف مبيعات العقارات تقريباً. وظلت مئات الآلاف من الشقق شاغرة نظراً لانتقال البالغين العاطلين عن العمل للإقامة مع آبائهم مرة أخرى.
وفي ديسمبر 2015، أعلنت المفوضية الأوروبية عن برنامج إعانة إيجار بقيمة 80 مليون يورو لتوفير 20,000 مسكن لإقامة اللاجئين في اليونان خلال السنة التالية. وتم تكليف مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بتنفيذ هذا المخطط، ولكن التقدم كان بطيئاً. ففي مطلع أكتوبر 2016، كانت قد تعاقدت على 13,000 مسكن فقط، تاركة آلاف الأسر في الخيام والمستودعات خلال ذروة أكثر فصول الشتاء برودة في اليونان منذ عدة سنوات.
"شهدنا شتاءً رهيباً وتدهورت الظروف المعيشية في المخيمات بشدة لدرجة أننا كنا نخشى حقاً أن يموت الناس فعلاً بسبب انخفاض حرارة أجسامهم في المخيمات - وخاصة المواليد الجدد، الذين تحول لونهم إلى الأزرق،" كما أشارت آن فورجيه التي تدير مكتب المجلس النرويجي للاجئين في سالونيك.
الكراهية والنكث بالوعود
أراد المجلس النرويجي للاجئين المساعدة في حل مشكلة الإسكان قبل أن تتحول إلى أزمة، ولكن حصول المنظمات غير الحكومية على موافقة المفوضية الأوروبية على مقترح المشروع وصرف الأموال استغرق عدة أشهر. تمكنت فورجيه من البدء في تعيين موظفيها في سالونيك يوم 12 أكتوبر فقط، وعندئذ، بدؤوا يتجولون في ستة مخيمات في المنطقة لتحديد الأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إلى نقلهم إلى مساكن من الطوب والملاط.
ولكن على الرغم من وفرة السكن، كافح المجلس النرويجي للاجئين للعثور على شقق للإيجار لأن المُلّاك شعروا بالقلق من برنامج يستمر تمويله لمدة ستة أشهر فقط ثم ينبغي تجديده، ومن فكرة التأجير للاجئين.
وعن ذلك، قالت فورجيه: "كانت الاعتراضات بالأساس هي: 'لا أريد التأجير للاجئين لأنهم يتسمون بالقذارة، ومصابون بأمراض، وسوف يحطمون شقتي. لا أريد التأجير لفترة قصيرة من الزمن. المبلغ الذي تعرضونه منخفض للغاية'".
وفي محاولة لاستباق الطقس السيء، قرر المجلس النرويجي للاجئين نقل 400 شخص إلى فنادق. وقد مكّن هذا الأمر النساء الحوامل والمرضى وكبار السن والعائلات، مثل أسرة العلي، من الخروج من الخيام. ولكن التكلفة كانت عالية: دفع المجلس النرويجي للاجئين 25 يورو عن الليلة الواحدة لكل مقيم في فندق - أي حوالي 4,500 يورو في الشهر لأسرة العلي المكونة من ستة أفراد وحدها.
وفي نهاية المطاف، تدخلت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وبحلول نهاية عام 2016 كانت قد وفرت مأوى لنحو 21,000 لاجئ، من بينهم ما يقرب من 12,000 في شقق سكنية.
وقال الناطق الرسمي باسم المفوضية في اليونان، رولاند شونباور، أن هذا المخطط قد تم تصميمه لتوفير مساكن مؤقتة لطالبي اللجوء أثناء انتظارهم للانتقال إلى بلد آخر في الاتحاد الأوروبي، وأن أعداداً كبيرة أخرى كانت ستستفيد منه إذا أوفى أعضاء الاتحاد الأوروبي بتعهداتهم بقبول 63,000 لاجئ من اليونان. وحتى الآن، تم نقل أقل من 10,000 لاجئ من البلاد.
كما تعرّض وزير الهجرة اليوناني يانيس موزالاس لانتقادات بسبب بطء وتيرة التقدم في مجال تسكين اللاجئين، على الرغم من المستويات غير المسبوقة من تمويل الاتحاد الأوروبي. "أنت مسؤول عن 60,000 شخص ولديك مليار يورو: أكثر من ما كان متوفراً تحت تصرف أي شخص في أي وقت مضى،" كما قال النائب المحافظ ميلتياديس فارفيتسيوتيس في البرلمان الشهر الماضي، في إشارة إلى الأموال التي تقول المفوضية الأوروبية أنها خصصتها أو صرفتها لليونان استجابة لأزمة اللاجئين منذ عام 2015. وأضاف قائلاً: "أعتقد أن أي مسؤول في حكومة محلية كان بمقدوره التصرف بشكل أفضل منك".
الخصوصية، أخيراً
وخلال الشهر الماضي، بدأ المجلس النرويجي للاجئين أخيراً ينقل اللاجئين إلى مساكن يمكن استخدامها على المدى الطويل. تم تخصيص شقة لأسرة العلي مقابل ربع تكلفة الفندق، وتشير التقديرات إلى أن هذه الوفورات ستكفي لاستيعاب نحو 2,800 شخص في شقق سكنية بحلول شهر يوليو المقبل.
في الوقت الراهن، المفروشات قليلة: "مراتب على الأرض. مرتبة واحدة لكل شخص، ووسادة واحدة لكل شخص، وثلاجة وموقد مزدوج ... لا توجد طاولات أو كراسي أو إطارات، حتى للأسرة، ولا واي فاي،" كما أوضحت فورجيه.
ولا يبدو أن أسرة العلي تعترض على ذلك. فبعد المشي عبر آسيا الصغرى والإقامة في مستودع، ومخيم في العراء، وفندق، أصبح لديهم هنا، للمرة الأولى، مساحة خاصة بهم، وأصبحوا يعيشون بين اليونانيين بدلاً العيش كلاجئين. ويجلس ضيوفهم على قطعة الأثاث الوحيدة - أريكة سرير تركها المالك، وانهارت زنبركاتها منذ فترة طويلة - ويجلسون القرفصاء على أرضية من البلاط، في حين يجلس أطفال الأسرة الأربعة، الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاماً، في غرف نوم فارغة أيضاً. "نحن سعداء بوجودنا في اليونان. نحن لسنا في وضع جيد، ولكننا نعيش في أمان وأفضل من ذي قبل،" كما قالت رامية.
ويعترف مينيوس سكورداس، وهو صاحب فندق يؤجر تسع شقق استوديو للأسر السورية والأفغانية التي يرسلها إليه المجلس النرويجي للاجئين، بأنه كان متردداً في البداية، ولكنه أوضح أنه "عندما رأيت وجوه الأطفال، تلاشت كل مخاوفي".
ولاحظ أنهم أيضاً قد تأقلموا: "في أول شهرين، كانوا خائفين للغاية. أما الآن، فإنهم يذهبون إلى السوبر ماركت. وركبوا الحافلة مرة واحدة أو مرتين ... الأطفال يتعلمون بسرعة مذهلة. في غضون شهرين، أصبحوا قادرين على التواصل باللغة اليونانية،" كما أخبر شبكة الأنباء الإنسانية.
منفعة متبادلة
ووصف شونباور من المفوضية المعيشة في شقق بأنها ذات منفعة مزدوجة. وأضاف قائلاً: "قبل بضعة أسابيع فقط، قمت بزيارة أسرة سورية في شقة قريبة من مكتبنا. وقالوا لي: كل يوم يأتي جيراننا اليونانيون يطرقون بابنا ويسألون إذا كنا بحاجة إلى أي شيء. هذا هو نوع التفاعل الذي يدشن عملية الاندماج من كلا الجانبين، وهذه إحدى فوائد البرنامج بأكمله التي يتم التقليل من شأنها".
وهناك فوائد للاقتصاد اليوناني أيضاً. فقد أدت الأزمة إلى تخفيض أسعار العقارات بأكثر من 40 بالمائة منذ عام 2007، و45 بالمائة في منطقة سالونيك. وانخفضت الإيجارات نسبياً. ويذكر أن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنفقت الـ80 مليون يورو المقدمة من المفوضية الأوروبية فضلاً عن 5.4 مليون يورو أخرى تلقتها في صورة تبرعات على الشقق والفنادق في العام الماضي. ويمكن أن تنفق أكثر هذا العام.
"المال الذي يحصل عليه [المُلّاك] أفضل بكثير مما كانوا سيحصلون عليه في السوق [المفتوحة]،" كما أفاد وكيل عقارات في سالونيك يدعى ستيفانوس فاسيلياديس، معلقاً على العملاء الذين أجروا شققهم للأسر السورية عن طريق المجلس النرويجي للاجئين.
ومن بين المجموعة الأصلية المكونة من 41 فرداً من عائلتي العلي والضاهر، تم نقل 27 إلى ألمانيا، وتوزيع معظم الباقين على مخيمات في شمال اليونان، حيث لم تعد الظروف المعيشية سيئة كما كانت من قبل. وتم استبدال الخيام بوحدات سكنية متنقلة. ويحصل البالغون على راتب شهري قدره 150 يورو لإطعام أنفسهم، ويمكن للأطفال الآن الالتحاق بالمدارس اليونانية.
ولا يزال 29,000 لاجئ يعيشون حالياً في المخيمات، من بينهم 14,200 في الجزر (حيث لا تتجاوز قدرات الاستيعاب الرسمية 9,000 شخص)، ولكن موزالاس أكد للبرلمان الأسبوع الماضي أن 10,000 شخص آخرين سيتم نقلهم إلى شقق سكنية في عام 2017، و "إذا استمر تطبيق الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا،" سيتم نقل 10,000 آخرين في عام 2018.
وقد تقدم أحمد ورامية أيضاً بطلب لنقل أسرتهما إلى ألمانيا، وهي عملية قد تستغرق عدة أشهر. وفي هذه الأثناء، يتمتعان بالخصوصية ومساحة واسعة في شقتهما، ولكنهما لم يلحقا أطفالهما بالمدارس اليونانية أو يثبتا أقدامهما في المجتمع. فما يريدان بدء حياة جديدة في ألمانيا قبل القيام بذلك.
(الصورة الرئيسية: أفراد أسرة العلي الباقون على قيد الحياة في غرفة معيشة بها مفروشات قليلة. جون بساروبولوس/إيرين)
jp/ks/ag-ais/dvh