قال عمار، وهو مدخن شره على الرغم من سعاله الحاد، أثناء جلوسه خارج مقهى في أربيل: "لن أعود إلى الموصل، حتى بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. لقد أصبحت الموصل مكاناً مدمراً بالنسبة لي ولعائلتي إلى الأبد".
يتذكر الرجل البالغ من العمر 47 عاماً وهو أب لثلاثة أطفال إحدى الليالي في شهر أغسطس 2014 عندما وضع أسرته في سيارة بعد 24 ساعة من استيلاء ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية على المدينة، وهرب إلى جيب عينكاوة في أربيل، حيث لجأ أكثر من 50,000 مسيحي مثله.
وقال في حديث لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "قاموا بتفتيشنا عند حاجز أمني تابع لتنظيم الدولة الإسلامية وأخذوا كل شيء، حتى أقراط بناتي. شعرت زوجتي بالرعب من أن يأخذوا بناتنا ولم أستطع التوقف عن الارتعاش، حتى بعد مرورنا. وعندما وصلنا إلى أربيل، لم يكن معنا سوى السيارة وهاتفي المحمول، الذي كنت قد خبأته في جوربي".
تعرضت زوجة عمار لصدمة شديدة وأُصيبت بسكتة دماغية بعد بضعة أشهر، ولا تزال تعاني من شلل جزئي، والدواء الوحيد الذي يستطيع أن يشتريه لها هو الباراسيتامول.
"في الموصل، كان لدي كل شيء: عمل تجاري ناجح - صنع يافطات للمحلات التجارية - ومنزل وسيارتان وورشة. تم تدمير كل شيء الآن. لقد فقدت كل شيء في لحظة واحدة بهذه السهولة،" كما قال عمار وهو ينقر أصابعه.
من المرجح أن تمر عدة أشهر قبل تحرير الموصل نفسها، ولكن في الفترة التي سبقت الهجوم على المدينة، سيطرت القوات المسلحة العراقية على العديد من المناطق النائية التي كانت في السابق تخضع لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، بما في ذلك العديد من البلدات المسيحية.
مع ذلك، لا توجد أشياء كثيرة يستطيع رجال الدين وأفراد رعيتهم السابقون أن يعودوا إليها؛ فقد ألحق مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية دماراً واسع النطاق بلا رحمة، ودنسوا الكنائس ونهبوا المقابر وأحرقوا المنازل. ولا يزال الكثير من مسيحيي العراق المنكوبيين - الذين يتراوح عددهم بين 300,000 و400,000، انخفاضاً من 1.3 مليون قبل 20 عاماً - يخشون حتى التفكير في العودة إلى ديارهم.
"لقد فقدنا كل شيء، وليس لنا مستقبل هناك نحن المسيحيون في العراق. إنني أفكر في الموت، وأعتقد أنه سيكون أفضل من هذا" كما أفاد عمار.
كنائس مهدمة وحياة محطمة
ولكن لا يشعر الجميع بنفس شعور عمار.
في برطلة، وهي قرية ذات أغلبية مسيحية في الضواحي الشرقية لمدينة الموصل، يسير اثنان من رجال الشرطة العسكرية على الأقدام داخل مذبح كنيسة مهدمة يكسو الدخان الأسود جدرانها ومقاعدها المحطمة.
وقال الرقيب مايكل بولس، أحد الجنديين المسيحيين الوحيدين في وحدة الشرطة العسكرية العراقية المسؤولة عن تأمين القرية: "عندما دخلت هذه الكنيسة لأول مرة بعد التحرير، شعرت بسعادة عارمة لا يمكن وصفها. كانت حقاً مثل فرحة عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة معاً بالنسبة لنا. لدي ألم عميق في قلبي بسبب ما حدث هنا، ولكنني أعتقد أننا نستطيع إعادة بناء ما تم تحطيمه".
وتجدر الإشارة إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية استولى على برطلة في منتصف عام 2014، مما اضطر سكانها المسيحيين - ما يقدر بنحو 70 بالمائة من عدد سكانها البالغ حوالي 20,000 نسمة - إلى الفرار. وانتابت المتشددين حالة من الهياج شملت تدمير التماثيل وقطع رؤوسها وحرق الكنائس ونهب المقابر وتفتيش الجثث المتربة بحثاً عن خواتم الزفاف أو القلادات الذهبية، وتدمير أي منازل يعرفون أنها مملوكة لمسيحيين.
"كنا من بين آخر الناس الذين رحلوا، ولكننا كنا نعتقد دائماً أننا لن نعود. نحن سكان هذه الأرض ونعيش هنا منذ قرون. كنا نعيش جنباً إلى جنب في سلام، ولكن هذا اختفى بعد ظهور التطرف الإسلامي. طلب منّا تنظيم الدولة الإسلامية أن نغير عقيدتنا أو نرحل، لكننا لم ولن نفعل ذلك،" كما أوضح بولس.
ويقول أنه وزميله ميلاد سعد - المسيحي الآخر الذي يخدم في برطلة - أصرا على التمركز هناك نظراً لأهمية الحفاظ على الوجود المسيحي في المدينة.
بعد تحرير المدينة من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، قام أعضاء قوات حماية سهل نينوى، وهي ميليشيا مسيحية شاركت في المعركة، بصنع صليب مؤقت ووضعه على قمة إحدى الكنائس المحلية.
وعلى الرغم من هذه الرمزية المظفرة، يقول بولس أن العديد من المدنيين يعرفون أن منازلهم قد دُمرت أو زُرعت فيها الشراك الخداعية، ويخشون من أنهم لن يستطيعوا العودة إليها.
وأضاف قائلاً: "إنهم لا يستطيعون أن يروا مستقبلاً لهم هنا بعد الآن، وهم خائفون بطبيعة الحال".
لكن بولس عازم على تغيير هذا التصور: "من المهم جداً بالنسبة لنا أن نكون هنا لمساعدة أفراد مجتمعنا الذين يزوروننا لكي يشعروا بالراحة والثقة".
تأجيل العودة
وقد مكّن تحرير المناطق المسيحية بعض الناس من زيارة منازلهم ومتاجرهم المهدمة وأراضيهم، ولكن نظراً لعدم تطهير معظم المناطق من المتفجرات من مخلفات الحرب، فإن العودة الدائمة ليست واقعية حتى الآن.
والجدير بالذكر أن قرة قوش، التي كانت في السابق أكبر مدينة مسيحية في العراق، تقع على بعد 30 كيلومتراً جنوب شرق الموصل وتحررت في مطلع شهر أكتوبر الماضي.
وتقول القوات المحلية التي تتولى تأمينها أنها تأمل أن يبدأ الناس في العودة في شهر يناير. لكن ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية جعلت الكثير من المسيحيين النازحين في العراق يتشككون في جيرانهم السابقين من المسلمين، ووجود قوات أمن مسيحية في المنطقة ليس ضمانة كافية لسلامتهم في المستقبل تجعلهم يفكرون في العودة.
من جانبها، تقول نعمة، وهي طبيبة أسنان تبلغ من العمر 26 عاماً وتعيش حالياً في أربيل: "لن نعود. إن العيش هناك بين المسلمين ليس مأموناً وأنا لم أعد أثق بهم".
"لقد هاجمونا من قبل، وسوف يهاجموننا مرة أخرى. وعندما يأتون لمهاجمتنا نحن المسيحيين في المرة القادمة، لن يكون ذلك تحت اسم تنظيم الدولة الإسلامية، بل سيكون هناك اسم مختلف. كان تنظيم القاعدة من قبل، ثم تنظيم الدولة الإسلامية، وفي المرة القادمة سيكون اسماً مختلفاً، ولكنه دائماً نفس الشيء،" كما أضافت.
ولكن المسيحيين ليسوا الوحيدين الذين لا يستطيعون العودة إلى ديارهم أو يعانون من النسيان في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية.
تتركز مخاوف نعمة على المسلمين السنّة، ولكنهم أقلية أيضاً في العراق ويشكلون غالبية الثلاثة ملايين نازح في العراق. يعيش الكثيرون منهم تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ويشعرون الآن أن اللوم يوجه إليهم ظلماً على علل البلاد وأنهم مبعدون عن منازلهم.
تقرير ذو صلة
ولكن نعمة تشعر بالقلق من أن الوضع بالنسبة للأقليات الأقل حجماً في العراق مستمر في التدهور. ومثل كثيرين آخرين، تقول أن أسرتها لم تعد ترى أي مستقبل للمسيحيين في العراق وتأمل في فرصة لطلب اللجوء في أوروبا.
منذ التحرير، زار بعض أقارب نعمة قرة قوش، ولكن فقط لتفقد الأضرار ومعرفة ما إذا كان هناك أي شيء يمكن إنقاذه.
وتقول جدتها سارة البالغة من العمر 82 عاما أنها وجدت أن منازل عائلتها الخمس قد نُهبت وأُضرمت النيران في أربعة منها. "لقد رحلنا فجأة، ولم نتمكن من أخذ أي شيء معنا. عدت مع ابني لرؤية الأضرار والبحث عن ملابسي التقليدية، ولكن حتى هذه لم أجدها. لقد اختفى كل شيء،" كما أوضحت.
وقد غادر ما يقرب من ثلث سكان قرة قوش، الذين يبلغ عددهم 50,000 نسمة، العراق منذ عام 2014 وطلبوا اللجوء إلى بلدان أخرى، وفقاً للأب جورج جاهولا، وهو قس من البلدة. فر بعضهم إلى دول مجاورة - لبنان والأردن وتركيا - ولكن البعض الآخر ذهب إلى دول بعيدة مثل كندا وأستراليا.
"حتى بعد التحرير، نشهد الآن مدى الدمار، ولا أعتقد أنهم سوف يعودون،" كما أخبر شبكة الأنباء الإنسانية، مشيراً إلى أن هذا الأمر كان بمثابة تهديد وجودي للمسيحيين في العراق، الذين يقولون أنهم إحدى أقدم المجتمعات المسيحية المستمرة في العالم.
فقدان الأمل
ويبذل عمار، صانع اليافطات، قصارى جهده لإقامة حياة جديدة لنفسه في أربيل.
لقد فتح متجراً صغيراً، ولكن ثبت سوء توقيته لأن حكومة إقليم كردستان المتمتعة بحكم شبه ذاتي واجهت انهياراً مالياً في نفس الوقت، الأمر الذي أدى إلى توقف معظم مشاريع البناء في المدينة. وقد اضطر لإغلاق متجره.
اغرورقت عيناه العميقتان في وجهه الذي أسفعته الأحوال الجوية بالدموع عندما اعترف بأنه قد باع خاتم زواجه في الآونة الأخيرة - والذي كان آخر شيء ذي قيمة يملكه - لدفع رسوم دراسة بناته الجامعية.
"هذه السترة هبة من الكنيسة، وهذا القميص وهذا السروال من الكنيسة،" كما يقول وهو يجذب ملابسه. إنه يشعر بالامتنان للحصول على تبرعات لكنه يجد صعوبة في تقبل ما وصل إليه حاله بعد سنوات طويلة من العمل الشاق.
وهو لا يزال مصراً على عدم العودة إلى الموصل.
من جهته، يعترف بولس، الشرطي الذي يسهر على تأمين برطلة، بأن أولئك الذين ما زالوا في البلاد يخشون المزيد من الاضطهاد، وأن ما يرونه على أنه خيانات سابقة من قبل الجيران المسلمين يجعل إعادة بناء الثقة أمراً صعباً.
ولكن عزمه لا يتزعزع.
"نحن لا نريد هجرة. نريد أن نبقى في أرضنا، وينبغي أن يكون هذا هو حقنا الأساسي. لكننا بحاجة إلى أن نكون قادرين على منح شعبنا وضعاً ومستقبلاً آمناً. هذا أمر ضروري للغاية،" كما أكد.
(الصورة الرئيسية: رجل شرطة عسكرية يتجول في الأجزاء الداخلية المحترقة من أكبر كنيسة في العراق، في قرة قوش. توم وستكوت/إيرين)
tw/as/ag-ais/dvh