يجلس ديفيد صلاح على ضفة نهر كايا في جنوب السودان، حيث يوجد جسر خشبي يفصل بينه وبين بوسيا، معبر حدودي في أوغندا، مرتدياً قميصاً أسوداً وأحمراً وسروالاً أسوداً. ورغم ابتسامته الودية، لكنه يحتفظ ببندقية بالية من طراز AK-47 إلى جانبه.
قضى صلاح معظم حياته المبكرة طالباً يدرس في أوغندا، حيث تعلم تحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة. وفي عام 2003، عاد إلى وطنه جنوب السودان. ومنذ ذلك الحين، يعمل مزارعاً في الإقليم الاستوائي الجنوبي الخصب.
غير أن هذا ليس المستقبل الذي كان يحلم به. كان صلاح يريد العودة إلى أوغندا لمواصلة الدراسة والحصول على بكالوريوس في إدارة الأعمال من جامعة ماكيريري. ولكن الحكومة، حسبما يقول، لن تتكفل بدفع تكاليف الدراسة.
ويرى صلاح أن حكومة جنوب السودان تقدم المنح الدراسية لأفراد قبيلة الدينكا فقط، أكبر مجموعة عرقية في البلاد. وهي القبيلة التي ينتمي إليها الرئيس سيلفا كير ومعظم كبار الشخصيات في إدارته.
ومثل العديد من المواطنين الذين لا ينتمون لقبيلة الدينكا في جنوب السودان، يعتقد صلاح أن الحكومة تكرّس جهودها فقط لإبقاء أفراد الدينكا في السلطة. والجدير بالذكر أن كير يحظى بدعم مجلس شيوخ الجينق (الدينكا) المؤثر وبدعم من رئيس الأركان العامة للجيش، بول مالونق أوان.
إلى الأدغال
ينتمي صلاح لقبيلة الكاكوا، وهي مجموعة عرقية صغيرة نسبياً تمتد من جنوب غرب جنوب السودان وشمال شرق أوغندا وشمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وفي العام الماضي، انضم إلى متمردي الجيش الشعبي لتحرير السودان، وهي حركة مرتبطة بثاني أكبر مجموعة عرقية في البلاد، النوير. ولكن حركة التمرد تجذب أيضاً ولاء الميليشيا الحالية التي تستند إلى المجتمع المحلي في الإقليم الاستوائي وما وراءه، أي شخص يتحدى قبضة الدينكا المتصورة على السلطة والموارد الوطنية.
يعمل صلاح حالياً ضابطاً برتبة نقيب في الجيش الشعبي لتحرير السودان. وبسؤاله عما إذا كان يعتقد أن القتال سيقود إلى الحل السياسي الذي يبتغيه، ضحك وقال أنه يرى أن هذا هو السبيل الوحيد لإحداث تغيير في هذا الجزء من العالم.
أما رفيق صلاح في السلاح، صاموئيل دنياق، شرطي في العاصمة جوبا، فيقول أنه رأى الشوفينية العرقية بنفسه. ويزعم دنياق أن قادته من الدينكا تلاعبوا في الدفاتر الرسمية، وأضافوا عشرات من الأسماء الوهمية إلى كشوف المرتبات، ثم تقاسموا العائدات بين رجال الشرطة من الدينكا فقط.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية في جنوب السودان في ديسمبر 2013، بسبب التنافس على السلطة بين كير ونائب الرئيس السابق رياك مشار، عاد دنياق إلى مسقط رأيه في ولاية غرب الاستوائية. وانضم إلى "فتيان السهام"، وهي مجموعة مليشيات ضخمة تشكلت بالأساس للدفاع عن المجتمع في مواجهة الهجمات التي يشنها جيش الرب للمقاومة سيء السمعة في أوغندا.
وبعدما انقشع تهديد جيش الرب للمقاومة، ظهرت الآن تهديدات جديدة. لطالما أشعل تعدي رعاة الأبقار الدينكا المدججين بالأسلحة على الأراضي الزراعية، واختفاء الشبان في عمليات مكافحة التمرد الخرقاء التي تديرها الحكومة، غضب السكان المحليين.
التمرد ينتشر
وفي ظل تنامي الجماعات المسلحة في ولاية غرب الاستوائية في عام 2015، انضمت بعض فصائل "فتيان السهام" إلى الجيش الشعبي لتحرير السودان. وكان دنياق واحداً من هؤلاء.
وعلى الرغم من سعي بعض هذه الجماعات المسلحة الناشئة إلى الانخراط تحت راية الجيش الوطني بموجب اتفاق تم التفاوض عليه في عام 2015 لوضع حد للحرب الأهلية، إلا أن هذا الاتفاق لم يدم طويلاً. وفي حين أن رياك مشار عاد أخيراً إلى جوبا للانضمام إلى حكومة الوحدة الوطنية في شهر أبريل من هذا العام، فقد هرب عقب ثلاثة أشهر فقط خوفاً على حياته، واتجه جنوباً عن طريق الإقليم الاستوائي وعبر الحدود الكونغولية.
واندلع القتال في أعقاب ذلك. وكان ينظر السكان في السابق إلى ياي في الإقليم الاستوائي على أنها واحدة من أكثر الأماكن أمناً في جنوب السودان. ولكن منظمة هيومن رايتس ووتش أوردت في تقرير لها في شهر أكتوبر أن هناك "حالات عدة" من إساءة المعاملة من جانب الجيش ضد المدنيين خلال مطاردته لأنصار الجيش الشعبي لتحرير السودان.
ولم يتسن لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) الحصول على تعليق من الحكومة في هذا الشأن.
ومن بين الجماعات المسلحة الأكثر وحشية التابعة للقوات الحكومية هي دينكا مثيانق انيور التي ينتمي جميع أفرادها إلى قبيلة الدينكا، التي شكلها مالونق، رئيس الأركان العامة للجيش، ذلك أنها لعبت دوراً رئيسياً في تطهير أحياء النوير في جوبا في عام 2013.
الانتقام
وأعمال العنف هذه حفّزت المعارضة وزادتها اتحاداً لشعور أفرادها بأنهم هم الضحايا، وولدّت أيضاً دوامة من الثأر والانتقام. وفي شهر أكتوبر، هاجم مسلحون مجهولون حافلة كانت تسير على الطريق الرابط بين ياي وجوبا، حيث قاموا بفصل الركاب الـ21 الذين ينتمون إلى الدينكا عن الركاب الآخرين، وأطلقوا النار عليهم.
في هذا الصدد، قال الباحث ألان بوزويل لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "يشير تاريخ الفظائع الجماعية إلى أن العنف العرقي عادة ما يستخدم كأداة سياسية تهدف أغراضاً سياسية، وكثيراً ما تكون تافهة. وجنوب السودان ليس استثناء من ذلك...إنها حرب سياسية لدولة جديدة لم تتشكل بشكل تام، ولكنها تخاض الآن وهي تنهار".
وتجدر الإشارة إلى أن الأعمال الوحشية التي تجري حالياً في الإقليم الاستوائي أجبرت 246,000 شخص في جنوب السودان على الفرار إلى شمال غرب أوغندا في غضون ستة أشهر. وقد عبر عشرات الآلاف منهم – إن لم يكن أكثر- جسر الكابتن صلاح المتهالك.
وتعليقاً على ذلك، قال بوزويل: "هذه الأعمال الوحشية لا تعبر في حد ذاتها عن إساءة استخدام السلطة بقدر ما تعبر عن يأس الضعيف الذي يفتقر إلى سلطة الدولة الحقيقية...هذا تطهير عرقي ناتج عن اليأس، لا القوة".
سارت لونا سايما لمدة سبعة أيام مع أفراد أسرتها من ياي للوصول إلى بر الأمان. في أوائل شهر ديسمبر، انتقلت بالشاحنة من جنوب الحدود السودانية إلى مركز عبور كولوبا في أوغندا.
وقالت لونا لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "إذا وقعت في أيدي [الدينكا]، فسوف يذبحونك مثل الدجاج ... إنهم يريدون قتل أي شخص لأنهم لا يثقون بك... إنهم يعتقدون أنك تخفي المتمردين".
وسايما مصابة بالسل ولم تتمكن من الحصول على الدواء لمدة شهرين، منذ أن تسببت الحرب في توقف المستشفى وخطوط الإمداد. وهي تعاني الآن من آلام مبرحة في جسدها.
ويشكل النساء والأطفال ما لا يقل عن 85 بالمائة من سكان المخيمات المكدسة، فيما بقي الرجال لمواصلة القتال وحماية ممتلكاتهم.
يسير أوتو جون اديما باكز عكس هذا التيار. لقد وصل الواعظ المصاب بفيروس نقص المناعة البشرية مع 12 طفلاً، قادماً من منطقة توريت، التي تقع جنوب شرق جنوب السودان، في شهر أغسطس. يجلس أمام منزله الذي بناه بالطوب في مخيم بيدي بيدي، حاملاً طفله الرضيع.
شاهد جون ثلاثة مدنيين مقتولين بالرصاص، ولكنه لا يعرف ما إذا كان الجيش الشعبي لتحرير السودان أو المتمردون هم من فعل ذلك. غير أنه واثق من أن خمسة أفراد من الجيش الشعبي لتحرير السودان قد اغتصبوا امرأة في الشارع بعصا.
لقد ظل القتل العرقي سمة من سمات الحرب الأهلية في جنوب السودان منذ أن بدأت. يوجد لدى كيم ريان، الذي كان رئيس عمليات قسم الإغاثة والحماية التابع لبعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام، الكثير من الأدلة في هذا الشأن.
وفي هذا الصدد، قال ريان لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "لديّ مئات الصور للأشخاص الذين قتلوا خلال الحرب التي استمرت ثلاث سنوات في جنوب السودان، حيث كان معظمهم من المدنيين، وتم تقييد الكثير منهم وإعدامهم". أرغمت أعمال العنف هذه 200,000 شخص على الفرار من ديارهم في عام 2015.
إبادة جماعية
وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة لم تستخدم عبارة "التطهير العرقي" أو "الإبادة الجماعية" حينذاك، إلا أنها تستخدمها الآن.
وفي 11 نوفمبر، قال آدم دينق، مستشار الأمم المتحدة الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية، أن جنوب السودان ينزلق نحو "الحرب العرقية الصريحة" والإبادة الجماعية. وتجدر الإشارة إلى أن آخر مرة زار فيها البلاد كانت في عام 2014.
وفي السياق ذاته، قالت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في بيان لها في 30 نوفمبر: "تحدث بالفعل عملية مطردة للتطهير العرقي في مناطق عدة من جنوب السودان باستخدام التجويع والاغتصاب الجماعي وحرق القرى".
ولا أحد يعرف عدد الأشخاص الذين قتلوا جرّاء الحرب الأهلية في جنوب السودان. وهناك تقديرات تتحدث عن قرابة 300,000 شخص، ولكن عبارة "عشرات الآلاف" عادة ما تستخدم في التقارير الإخبارية.
وقالت كاسي كوبلاند، كبيرة المحللين المتخصصين في جنوب السودان في مجموعة الأزمات الدولية: "الأمم المتحدة هي الطرف الفاعل الوحيد في جنوب السودان الذي لديه القدرة على جمع الخسائر في الأرواح والتحقق منها، لكنها اختارت عدم القيام بذلك".
"إحصاء الخسائر في الأرواح أمر مهم لإنسانيتنا، ولرفع مستوى الوعي، وللأدلة العملية حول كيفية تطور الحرب".
من جانبه، لا يرى ريتشارد باتيلي، الذي يقوم أيضاً على حراسة الجسر الذي يقع على نهر كايا، نهاية في الأفق لهذا الصراع. وقال لشبكة الأنباء الإنسانية": "الأمور التي ستحدث غير مقبولة ... هذا القتال سيتواصل لأطفالنا".
الصورة الرئيسية: بيدي بيدي أسرع مخيم للاجئين نمواً في شمال غرب أوغندا. تصوير: الاتحاد الأوروبي/ إيكو/انوك ديلافورتري.
as/oa/ag-kab/dvh