تنبعث رائحة تحميص حبوب البن من كوخ جلادي، الذي يقع على تل تكسوه الغابات في مخيم ماي لا للاجئين في شمال تايلاند. ويضحك وهو ينحني فوق صينية التحميص عندما يتذكر وصوله إلى المخيم منذ أكثر من 20 عاماً.
وقال جلادي، الذي فر عبر الحدود في عام 1994 عندما وصل الجنود الحكوميون إلى قريته التابعة لعرقية كارين في ميانمار: "كنت أعتقد أنني سوف أبقى هنا لمدة أسبوع، وليس سنوات".
وجلادي واحد من 105,261 لاجئاً من ميانمار تقول مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنهم لا يزالون يقيمون في تسعة مخيمات في تايلاند، بعد فرارهم من الحروب العرقية التي تعاني منها بلادهم منذ ستة عقود. ولكن قد تكون إقامتهم الطويلة في تايلاند على وشك الانتهاء.
فقد أخبرت حكومة ميانمار الجديدة شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) أنها سوف تعلن قريباً عن خطة لإعادة اللاجئين من تايلاند. وتأتي هذه الخطة في الوقت المناسب لأن المنح الدولية وأماكن إعادة التوطين في بلدان أخرى توشك على النضوب بسبب أزمات اللاجئين الأخرى في مختلف أنحاء العالم.
أنظر: هل إعادة توطين 10 بالمائة من اللاجئين أضغاث أحلام؟
وقال زاو هتاي، المتحدث باسم مكتب الرئيس هتين كياو، أنه سيتم الإعلان عن هذه الخطة بعد زيارة وزيرة الخارجية الحائزة على جائزة نوبل للسلام اون سان سو تشي إلى مخيمات اللاجئين في وقت لاحق من هذا الأسبوع "لمعرفة المزيد عن قضاياهم والصعوبات والمخاوف التي يواجهونها".
وأضاف في تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية: "انتظروا حتى تزورهم اون سان سو تشي وبعد ذلك سنعلن المزيد".
تغييرات كبيرة وثقة قليلة
ومن المرجح أن تكتشف اون سان سو تشي أن اللاجئين لا يريدون العودة إلى ديارهم - على الأقل ليس الآن.
وقد شهدت السنوات القليلة الماضية تغيرات تاريخية في ميانمار. فبعد ما يقرب من نصف قرن من الحكم العسكري المتواصل، بدأ الجنرالات الذين يديرون البلاد تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية واسعة في عام 2011. واكتسحت اون سان سو تشي وحزبها الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، الذين كانوا في السابق يتعرضون للاضطهاد والسجن بسبب نضالهم ضد الجيش، الانتخابات في شهر نوفمبر الماضي وأصبحوا الآن يديرون الحكومة.
ولكن الاصلاحات لها حدودها، إذ يمنح الدستور الذي صاغه الجيش في عام 2008 ربع المقاعد البرلمانية للضباط الذين لا يزالون في الخدمة، فضلاً عن حق السيطرة على وزارات رئيسية.
كما يحتفظ الجيش بقيادة عملية السلام، التي تهدف إلى حل النزاعات مع أكثر من 20 جيشاً عرقياً. ولم توقع سوى ثماني مجموعات فقط من الـ15 مجموعة التي دُعيت لتوقيع "اتفاق وقف إطلاق النار الوطني" في شهر أكتوبر الماضي، في حين تم استبعاد العشرات. ولا يزال القتال محتدماً في العديد من المناطق العرقية، حيث تواجه القوات الحكومية اتهامات بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين.
انظر: النزاعات المنسية - ميانمار
وفي هذا الشأن قال جلادي: "لا أستطيع أن أثق في ما تقوله اون سان سو تشي لأن الجيش لديه نفوذ أيضاً".
وتجدر الإشارة إلى أن اتحاد كارين الوطني، الذي خاض حرباً ضد الجيش الذي تسيطر عليه عرقية باما، قد وقع على اتفاق وقف إطلاق النار، وتوقف القتال في ولاية كارين التي ينتمي إليها جلادي. ولكن هذا يوفر قليلاً من الطمأنينة على المدى الطويل.
وقال: "في رأيي، سيكون هناك المزيد من الحروب في المستقبل. لن يكون الحال أفضل".
ويشاركه في شكوكه العديد من اللاجئين، وفقاً لدراسة استقصائية أجرتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في عام 2014، إذ قال معظم المستطلعين أنهم لا يريدون العودة إلى ميانمار، وفضلوا البقاء في تايلاند أو إعادة توطينهم في بلد مختلف.
من جانبها، أوضحت سالي ثومسبون، المدير التنفيذي لاتحاد الحدود (Border Consortium)، وهي واحدة من أكبر المنظمات غير الحكومية العاملة في المخيمات التسعة: "الكلمات وحدها لن تشجع الناس،" مضيفة أنهم "بحاجة إلى رؤية تغيير حقيقي على أرض الواقع. لقد فروا من الجيش ولا تزال الشكوك عميقة".
خيارات أقل
لكن خيارات اللاجئين توشك على النفاد.
شهد اتحاد الحدود انخفاض التبرعات الدولية من 820 مليون بات تايلندي (حوالي 23 مليون دولار) خلال عام 2015 إلى ما يقدر بنحو 605 مليون بات تايلاندي في عام 2016 - وهو انخفاض بنسبة 26 بالمائة. وكانت إحدى عواقب خفض الدعم هي حصول اللاجئين على كميات أقل من الطعام الآن. فقد انخفضت حصص الأرز من 16 كيلوغراماً للشخص الواحد كل شهر إلى تسعة كيلوغرامات.
وقالت ثومبسون: "إذا خفضناها أكثر من ذلك، ستكون لدينا مخاوف بشأن التغذية، مخاوف صحية".
وفي مواجهة أزمة اللاجئين العالمية غير المسبوقة، تقوم الجهات المانحة بتوجيه التمويل إلى مناطق أخرى وتوشك مساحات إعادة التوطين على النفاد بالنسبة للاجئي ميانمار، خاصة في ضوء الإصلاحات الأخيرة.
وقالت المفوضية في تقرير سنوي صدر الإثنين أن النزوح العالمي قد وصل إلى مستويات قياسية جراء النزاعات المستمرة في عدة بلدان، منها سوريا واليمن وأفغانستان. ويوجد 65.3 مليون نازح في جميع أنحاء العالم، من بينهم 21.3 مليون لاجئ، والباقون نزحوا داخل حدود بلدانهم. كما تم تقديم عدد أكبر من طلبات اللجوء الجديدة في عام 2015، أكثر من أي عام سابق.
"في وضع لا يتوافر فيه سوى عدد معين من أماكن إعادة التوطين المتاحة، ينبغي على البلدان أن تدرس عوامل مثل الحاجة الإنسانية، ومن ثم يتعين عليها تحديد الأولويات،" كما أوضح ديفيد جون، كبير منسقي البرامج الإقليمية في مكتب المنظمة الدولية للهجرة في تايلاند.
والجدير بالذكر أن ميانمار هي ثاني أكبر مصدر للاجئين والنازحين داخلياً في آسيا، بعد أفغانستان، حيث يصل عددهم الإجمالي إلى مليون نسمة تقريباً، وفقاً لتقرير المفوضية. لكن مع التقدم السياسي الذي تم تحقيقه في بلادهم، أصبح احتمال قبول طلبات اللجوء المقدمة من قبل لاجئي ميانمار أقل من أي وقت مضى.
وكانت الولايات المتحدة، التي لا تزال تشير إلى ميانمار باسمها السابق، بورما، قد قبلت 85,000 لاجئ على مر السنين، لكن المتحدث باسم وزارة الخارجية أخبر شبكة الأنباء الإنسانية أنها توشك على إنهاء برنامج إعادة التوطين الخاص بها.
"لقد وصلنا إلى النهاية الطبيعية للبرنامج الذي يتبع معايير أهلية محددة لقبول اللاجئين البورميين،" كما قال المتحدث.
خيارات صعبة
وفي مركز معالجة طلبات إعادة التوطين التابع للمنظمة الدولية للهجرة، إلى الجنوب من ماي لا، استقل بعض اللاجئين حافلة ذات طابقين، وكانت هذه هي المحطة الاولى من رحلتهم إلى حياة جديدة في الولايات المتحدة.
وقال دوه هتو: "لا نشعر أن بورما هي وطننا، ولا نشعر أن المخيم هو وطننا. سوف نذهب إلى أمريكا ونحاول جعلها وطننا".
وكان هو وعائلته من المحظوظين الذين تم تسجليهم كلاجئين في عام 2005 والبت في طلبات إعادة التوطين الخاصة بهم. ولكنهم من بين أخر دفعة سوف تتاح لها هذه الفرصة.
وبدلاً من ذلك، سوف يكون أمام اللاجئين الذين ما زالوا في تايلاند خياران: البقاء في المخيمات التي تعاني من انخفاض التمويل والخدمات، أو العودة إلى ميانمار ومواجهة مستقبل غامض.
db/jf/ag-ais/dvh
(الصورة الرئيسية: مخيم ماي لا للاجئين في تايلاند. ديفيد دويل/إيرين).