على الطريق الرئيسي إلى شرق الموصل، يتأرجح هيكل عظمي متعفن على عمود خارج صف من المحلات التجارية المليئة بثقوب أحدثتها الرصاصات. ما كان في السابق دماغ بشري يتدلى بشكل مروع من محجر العين أمام أسنان مكشرة يبدو لونها الأبيض متناقضاً بشكل صارخ مع البقايا المتفحمة من اللحم والجلد المتحلل ليكشف عن العظام. تنتمي هذه الجثة إلى شخص يُزعم أنه أحد مقاتلي تنظيم الدولة الاسلامية وقد علقه جنود عراقيون في يناير الماضي كتحذير لأنصار تنظيم الدولة الاسلامية الذين يختبئون في المناطق المحررة من المدينة.
وحتى قبل تعليق الجثة على العمود، كان من المستحيل التعرف على ملامحها، حيث نُزع معظم اللحم من وجهها ونصفها العلوي. وكانت الجمجمة والأضلاع المحطمة تدل على تعذيب وحشي، ولكن هل حدث ذلك عندما كان هذا الشخص حياً أم بعد موته؟ وكانت الجثة واحدة من عدة جثث شاهدناها خلال تحقيق أجرته شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) واستمر لعدة أشهر للكشف عن عمليات القتل خارج نطاق القانون التي تستهدف مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين يقعون في الأسر، وانتهاكات القانون الدولي المتواصلة فيما يتعلق بمعاملة الأسرى، حيث يتجاهل القادة، على الأقل، ممارسات الجنود العراقيين الذين يأخذون على عاتقهم تحقيق العدالة بطريقتهم الخاصة على خط المواجهة.
وقرب نهاية معركة شرق الموصل، التي تسمى آخر معاقل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، كان الموت منتشراً في كل مكان. وفي أواخر يناير الماضي، وفي بقعة مقفرة بإحدى المناطق السكنية بالقرب من مستشفى السلام في الموصل، كان رجلان يرتديان ملابس مدنية وأيديهما مربوطة خلف ظهريهما ملقيين على الأرض حيث تم اعدامهما. كان أحدهما راكعاً ووجهه ملامس للتربة الصخرية بعد إطلاق النار على مؤخرة رأسه. أما الآخر - وهو رجل في الستينات من عمره - فكان ملقى على ظهره وفي وجهه ثقب أحدثته رصاصة أُطلقت من مسافة قريبة.
وقال أحد السكان المحليين لشبكة الأنباء الإنسانية في ذلك الوقت: "لقد كانا مع داعش،" مشيراً إلى تنظيم الدولة الإسلامية باسمه العربي. وأضاف أن "الجيش [العراقي] أحضرهما إلى هنا وأعدمهما قبل ثلاثة أيام،" شاكياً من الصدمة التي أصابت النساء والأطفال وخوفهم من رؤية الجثث الملقاة بهذه الطريقة.
وبعد حوالي شهر، سألت شبكة الأنباء الإنسانية القوات العراقية على خط المواجهة عن مصير مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية تم القبض عليه خلال توغلها في ذلك الصباح، فقال أحد الجنود ويدعى محمد أنه "سيتم استجوابه ثم قتله". وقاطعه جندي آخر يدعى عباس قائلاً أن الأسير سيُنقل إلى بغداد. وأصر محمد على أنه لن يُنقل، مؤكداً أن "القوات العراقية لن تسمح له بالذهاب والعيش في سجن فاخر من فئة ثلاث نجوم بينما نُقتل نحن على الخطوط الأمامية بسبب سيارات تنظيم الدولة الإسلامية المفخخة ورصاص قناصته".
واعترف أحد القادة في الموصل خلال حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية شريطة عدم ذكر اسمه، بأن بعض الأسرى التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية يُقتلون رمياً بالرصاص بالقرب من الخطوط الأمامية، وغالباً ما يحدث ذلك أثناء العمليات العسكرية الجارية. ولا يزال إعدام أسرى آخرين مستمراً بعيداً عن ساحات القتال، ومن المفترض أن يحدث ذلك بعد استجوابهم، مثل رجلين أُلقيت جثتاهما في خور بالقرب من مطار الموصل في أواخر مارس في منطقة تسيطر عليها الشرطة الاتحادية العراقية.
فوق القانون؟
وقالت بلقيس ويلي، كبيرة باحثي منظمة هيومن رايتس ووتش في العراق، في حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية: "إن قتل المحاربين أو المدنيين الذين تم أسرهم جريمة حرب، كما هو الحال بالنسبة لتشويه الجثث. يجب على سلطات العدالة الجنائية العراقية التحقيق في جميع الجرائم المزعومة، بما في ذلك القتل غير القانوني وتشويه الجثث، التي يرتكبها أي طرف من أطراف النزاع بطريقة سريعة وشفافة وفعالة، وصولاً إلى أعلى مستويات المسؤولية".
غير أنه من الناحية الواقعية، من غير المرجح أن يتم التحقيق في عمليات القتل خارج نطاق القضاء التي تقوم بها وحدات عسكرية أو أفراد عسكريون مارقون على حافة منطقة نزاع نظراً لندرة الشهود، إن وُجدوا.
والجدير بالذكر أن الروايات المستمرة عن ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية البربرية في الموصل - يُقال أن المتشددين يقومون بشكل روتيني بإعدام السكان المتهمين بالتعاون مع الجيش العراقي أو الذين يتم القبض عليهم أثناء محاولة الفرار - لا تساعد المحاربين الذين يتم أسرهم أو يشتبه في أنهم من المنتسبين إلى تنظيم الدولة الإسلامية. وتسود مشاعر الكراهية والاشمئزاز تجاه المتطرفين بين الجنود الأشداء الذين يسيطرون على خطوط المواجهة في الموصل، حيث يلجأ تنظيم الدولة الإسلامية إلى تنفيذ عدة عمليات انتحارية يومياً، فضلاً عن الاستخدام المكثف للعبوات الناسفة والقناصة للدفاع عن المدينة.
من جانبها، قالت ويلي: "يجب على الحكومة العراقية أن تسيطر على قواتها وتتولى مساءلتها إذا كانت تأمل في ادعاء أنها تتبع أساليب أكثر أخلاقية في معركتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية. يجب أن يعمل المسؤولون السياسيون والأمنيون والقضائيون معاً بشفافية للتحقق من أي تجاوزات تحدث خلال هذه المعركة".
مع ذلك، فإن التحقيق في الانتهاكات لا يمثل أولوية في العراق الآن، ويبدو أن بعض القادة العسكريين يشرفون على عمليات القتل خارج نطاق القضاء أو على الأقل يتغاضون عنها. وفي إحدى المناسبات الكاشفة، أخبر قائد رفيع المستوى في فرقة التدخل السريع التابعة للجيش العراقي شبكة الأنباء الإنسانية أن استجوابه الخاص لأسرى تنظيم الدولة الإسلامية - العراقيين والأجانب - قد كشف عن بعض المعلومات الاستخبارية المفيدة. ورداً على سؤال حول ما حدث لهؤلاء الأسرى بعد الاستجواب، أجاب: "انتهوا"، قبل أن يطلب من المترجم عدم ترجمة تلك الكلمات.
وكان عدد عمليات قتل أسرى تنظيم الدولة الإسلامية خارج نطاق القضاء في الموصل والمناطق المحيطة بها، التي استطاعت شبكة الأنباء الإنسانية التوصل إلى معلومات مباشرة عنها ويمكن التحقق منها، متواضعاً. ويودع العديد من المشتبه بهم في السجون في جميع أنحاء العراق، حيث تتاح لهم على الأقل فرصة مواجهة نظام العدالة الرسمي.
وقال القائد العسكري المتواجد في الموصل أن أكثر من 1,000 شخص يشتبه في انتمائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية محتجزون في سجون الموصل وبلدتين قريبتين، هما القيارة وحمام العليل وحدهما. وأضاف أن أسرى تنظيم الدولة الإسلامية الكبار يُنقلون إلى بغداد. وتجدر الإشارة إلى أن قوات الأمن العراقية تعتقل الأشخاص المشتبه في انتمائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية منذ منتصف عام 2014، ولذلك يُعتقد أن عدد المحتجزين في بغداد والمناطق المحيطة بها كبير، وقد أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش أن ما لا يقل عن 910 أسيراً قد نُقلوا إلى العاصمة من ثلاثة سجون في بلدات قريبة من الموصل. كما يتم احتجاز أكثر من 700 شخص مشتبه في انتمائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية داخل سجون في إقليم كردستان العراق شبه المستقل، وفقاً لأحد قادة قوات البشمركة الكردية.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير أصدرته في مارس الماضي أن ما لا يقل عن 1,269 أسيراً يشتبه في ارتكابهم جرائم، بما في ذلك الانتماء إلى تنظيم الدولة الإسلامية، كانوا محتجزين دون تهمة في ظروف "مروعة" و "مهينة" داخل ثلاثة سجون مؤقتة بالقرب من الموصل: اثنان في القيارة وواحد في حمام العليل. وأضاف التقرير أن الاكتظاظ المزمن وسوء حالة الصرف الصحي والحد الأدنى من فرص الحصول على الرعاية الطبية قد أسهم في وفاة أربعة أشخاص وبتر سيقان شخصين آخرين، وأن تلك المرافق قد فشلت فى الوفاء بالمعايير الدولية الأساسية. وأشار إلى أن عدداً قليلاً من الأسرى يتاح لهم الاستعانة بمحام وأن بعضهم محتجز بصورة غير مشروعة.
وقالت سارة ليا ويتسون، مديرة قسم الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش: "إن الأحوال المعيشية البائسة في سجون القيارة وحمام العليل تبين أن الحكومة العراقية لا توفر أبسط معايير الاحتجاز أو الإجراءات القانونية الواجبة. يجب أن يكون العراقيون من أكثر من يفهم العواقب الخطيرة لسوء معاملة المعتقلين في ظروف السجن القاسية".
صور سيلفي مع الموتى
وقد كشف الصراع في الموصل أيضاً عن عدم احترام موتى تنظيم الدولة الإسلامية، سواء الذين يتم إعدامهم أو يُقتلون أثناء المعارك. فقد أصبح التمثيل العلني بالجثث أمراً شائعاً، ويعتبره العديد من الجنود مقبولاً.
"إن أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية ليسوا من البشر - فقط انظر إلى ما فعلوه بمئات المدنيين في الموصل،" كما قال رقيب في الشرطة الاتحادية موضحاً السبب الذي يجعله يعتقد أنه من المعقول أن يقوم رجال في وحدته بتعليق مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية لعدة ساعات على عمود بعد قتله. وأضاف "إننا نفعل بهم ما فعلوه بالآخرين، وهذه الأعمال بمثابة تحذير لأي شخص هنا كان منضماً إلى داعش".
وقد أصبحت جثث تنظيم الدولة الإسلامية المعروضة على الملأ مناطق جذب محلية مقززة.
وعلى جانب أحد الطرق الرئيسية في شرق الموصل، يبصق الأطفال أو يلقون الحجارة على جثة مقاتل شاب من تنظيم الدولة الإسلامية ينحدر من أصل آسيوي ويرتدي زياً عسكرياً، ومعلق من عنقه على هيكل معدني مكسور بسلك كهربائي. "كان هناك خمسة من مقاتلي داعش هنا. عندما جاء الجيش قتلوه وعلقوه هنا،" كما أوضح شاب محلي.
وأوقف سائق سيارة أجرة سيارته لالتقاط صور سيلفي مع الجثة، وقال والبهجة تبدو عليه: "سأضع هذه الصور على موقع فيسبوك وأنا متأكد من أنني سوف أحصل على الكثير من "الإعجاب".
وأصبح التقاط صور سيلفي مع جثث مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية شائعاً في الموصل. وينشر الجنود العراقيون هذه الصور بشكل روتيني على موقع فيسبوك، ويجتذبون "الاعجاب" و "التبادل" والتهنئة والتعليقات المشجعة. عندما يتعلق الأمر بمقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، فإن التعامل غير المحترم مع الموتى - وهو شيء يحظره الإسلام والقانون الدولي - يصبح بطريقة ما ممارسة مقبولة.
وبالقرب من الخطوط الأمامية النشطة في غرب الموصل، حيث يصبح الطقس أكثر دفئاً ورائحة جثث مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في الشوارع لا تطاق، يتم إشعال النار في الجثث على نحو متزايد للحد من الرائحة. وهذا أيضاً محظور في الإسلام، وقد أدى أيضاً إلى مزيد من الأعمال الشنيعة. وقال جندي شاب وهو يضحك ويشير إلى وعاء قهوة على جثة مشتعلة: "لقد صنعنا القهوة على جثة عضو داعش هذا. وطبخنا غدائنا على جثة هذا الملقاة هناك".
الأثر النفسي
وفي عام 2009، أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن اضطرابات الصحة العقلية كانت رابع الأسباب الرئيسية للمرض بين العراقيين الأكبر من خمس سنوات. إن همجية تنظيم الدولة الإسلامية وما يقرب من ثلاث سنوات من النزاع الذي تسبب في سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين والعسكريين والنزوح الجماعي لم يؤد إلا إلى تفاقم أزمة الصحة النفسية هذه. وفي وقت سابق من هذا العام، ذكرت شبكة الأنباء الإنسانية أن ما يقرب من 80 طبيباً نفسانياً فقط يمارسون هذه المهنة في جميع أنحاء البلاد.
انظر: تنامي مشكلات الصحة النفسية في العراق
وقد شارك العديد من الجنود في صراع شبه متواصل مع تنظيم الدولة الإسلامية منذ منتصف عام 2014 وشاهدوا أصدقاءهم ورفاقهم يُقتلون أو تشوه جثثهم بشكل فظيع من قبل مقاتلي التنظيم. إن معركة الموصل - التي دخلت الآن شهرها السابع - تثبت أنها صعبة للغاية، وتصيب القوات المسلحة العراقية بالإجهاد العقلي والجسدي. وقد اعترف بعض الجنود لشبكة الأنباء الإنسانية برغبتهم في الانتقام من أسرى أو جثث مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية.
وبعد التقدم نحو المدينة القديمة في غرب الموصل في أواخر مارس، شاهدت شبكة الأنباء الإنسانية شرطياً اتحادياً يقترب من جثة مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية. وبدأ يركله بعنف في الرأس، قبل أن يشعل النار في شعره ولحيته. وقال: "هل تعتقد أنك ذاهب إلى الجنة؟ هناك مكان واحد فقط ستذهب إليه، وهو الجحيم!" وانضم إليه عدد قليل من ضباط الشرطة الاتحادية الآخرون في السخرية والتقاط صور سلفي مع الجثة.
وبعد تصوير الجسم المحترق على هاتفه المحمول لبضع دقائق، بدأ الرجل الذي أضرم فيها النار ينهار. ووضع شرطي أكبر سناً ذراعه حول كتفه لكي يخفف عنه. وجلساً معاً هناك في ضوء شمس بعد الظهيرة.
(الصورة الرئيسية: يقول سكان شرق الموصل أن هذا الرجل، إلى جانب رجل آخر، يشتبه في انتمائه إلى تنظيم الدولة الإسلامية وتم إعدامه من قبل جنود عراقيين في شهر يناير، وتُركت جثتاهما في حي سكني في المدينة).
str/ag-ais/dvh