يسير طابور هزيل قاتم اللون في خط متعرج عبر التلال الجرداء في ضواحي غرب الموصل، ويخترق سحب الغبار الناجمة عن انفجار قذائف الهاون المتساقطة من حوله. وبعيون فاغرة يكسوها الخوف وسط وجوه هزيلة جراء أشهر من سوء التغذية، يترنح البعض من الإرهاق أو يعرجون وهم يرتدون صنادل بلاستيكية ممزقة. ويسير آخرون حفاة الأقدام. وتحمل نساء عديدات الأطفال الصغار، بينما يظهر على أخريات الحمل في شهوره الأخيرة. ويتم دفع عربات صدئة أو بدائية تحمل الأجداد كبار السن عبر التضاريس الوعرة.
هؤلاء هم النازحون اليائسون الذين يفرون الآن من غرب الموصل، بينما يحارب الجيش العراقي ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في آخر معاقل الجماعة في العراق.
وبعد ما يقرب من ثلاث سنوات من الرعب تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية، وأربعة أشهر من العيش على حافة المجاعة منذ بدء معركة الموصل، وثلاثة أسابيع من القتال العنيف الذي مكّن الجيش العراقي وحلفائه من التوغل في غرب الموصل، أصبح الوضع الإنساني داخل المدينة وخيماً لدرجة أن الأسر لم يعد لديها خيار يُذكر سوى تعريض حياتهم للخطر والسير عبر الخطوط الأمامية للصراع لمجرد محاولة البقاء على قيد الحياة.
"انظروا إلينا. نحن شعب مدمر،" كما يقول محمد البالغ من العمر 67 عاماً وهو يستريح على الرمال مع أسرته. بعد تسع ساعات من السير على الأقدام، لم تعد زوجته المريضة قادرة على الاستمرار، على الرغم من أنهم لا يزالون في مرمى قذائف الهاون التي يطلقها تنظيم الدولة الإسلامية. ولا زال أمامهم نصف كيلومتر آخر ينبغي قطعه سيراً على الأقدام للوصول إلى الأمان النسبي عند نقطة تفتيش تابعة للجيش العراقي في جنوب غرب الموصل.
"لم يكن لدينا سوى الخبز والماء فقط لمدة أربعة أشهر، وقد أصبحنا ضعافاً للغاية،" كما أوضحت ابنته نادية، وهي تحتضن طفلها الأصغر، البالغ من العمر شهرين فقط. وأضافت أن العيش على مثل هذا النظام الغذائي السيء قد جعلها غير قادرة على إرضاع طفلها: "لم يكن لدي شيء أستطيع منحه لطفلي سوى الماء، وكنت أبكي كل يوم خوفاً من أن توافيه المنية".
الخوف
وتبين حقيقة أن السكان مستعدون للمخاطرة بقطع هذه الرحلة الغادرة من أجل الفرار من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في غرب الموصل مدى سوء التي تعاني من نقص شديد في الغذاء والماء والدواء. وكان تنظيم الدولة الإسلامية يمنع السكان من مغادرة المدينة منذ عدة أشهر، وكان الأشخاص الذين يُضبطون أثناء محاولة الهرب يُعاقبون بقسوة أو يُعدمون على رؤوس الأشهاد.
وقال محمد، الذي يشعر بالرعب من احتمال القبض عليه أو إعدامه، أن أسرته قد أجلت الرحلة حتى أصبح القتال الدائر من حولهم شديد الكثافة. وأضاف قائلاً: "كنا مختبئين داخل مدرسة ثم بدأت عملية [عسكرية] كبيرة وكانت قذائف الهاون تتساقط في كل مكان، على العديد من المنازل. تعرض منزل ابن عمي للقصف أثناء غارة جوية وانهار - ولا تزال جثث أسرته هناك تحت المبنى - فأدركنا أن خياراتنا الوحيدة هي مواجهة خطر الموت أثناء محاولة الهرب، أو البقاء والموت جوعاً، أو التعرض للقتل خلال الحرب".
"إنهم يقتلون عائلات الذين يتم القبض عليهم أثناء الفرار،" كما همست شيماء، وهي هاربة أخرى تبلغ من العمر 22 عاماً، مضيفة أن "إحدى الأسر حاولت الفرار قبل بضعة أيام - رجل وزوجته - ورأيت مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية يطلقون النار عليهما". كانت تتحدث من مركز التسجيل ونقطة فحص النازحين من غرب الموصل، التي تقع في حي العقرب على الطريق الرئيسي بين بغداد والموصل، ووصفت اقتحام مسلحين لقريتها منذ أربعة أشهر، الأمر الذي أجبر جميع سكانها على الانتقال إلى المدينة.
"لقد أرغمونا على الذهاب الى الموصل تحت تهديد السلاح والإقامة في منازل خالية حتى يتمكنوا من استخدامنا كدروع بشرية عندما بدأ القتال. وفي هذه الأشهر الأربعة، شهدنا أسوأ أشياء يمكن أن يراها أي إنسان في حياته كلها. لا أتمنى أن يحدث هذا لأي شخص،" كما أشارت شيماء.
الرحلة
والجدير بالذكر أنهم رحلوا في ساعة مبكرة من الصباح في محاولة لتجاوز مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية دون أن يلحظهم أحد، وساروا على الأقدام من جنوب غرب الموصل طلباً للحرية، عبر الخطوط الأمامية. وتقطع معظم الأسر هذه الرحلة في 12 ساعة تقريباً. وتقول القوات الخاصة العراقية التي تحرس نقطة تفتيش في ضواحي جنوب غرب الموصل أن عدة آلاف من النازحين يصلون كل صباح: وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، يفر نحو 4,000 شخص يومياً في المتوسط.
"كان هناك أكثر من 1,000 هذا الصباح حتى قبل السابعة صباحاً، وكان الطريق مغطى باللون الأسود نظراً لاكتظاظه بالأجساد، لأن الشاحنات لم تأت إلا في وقت لاحق،" كما أوضح علي، وهو جندي من القوات الخاصة.
وتجدر الإشارة إلى أن علي يساعد الأطفال حفاة الأقدام على قطع المسار الذي كان مترباً ولكنه أصبح الآن مكسواً بالطين بعد سقوط الأمطار لمدة يومين. كانت ملابس الوافدين الجدد مبتلة واصطكت أسنانهم من شدة البرد وهم يدخلون شاحنات الجيش ويقبلون بامتنان المياه والخبز والبسكويت الذي يوزعه المتطوعون الذين يدعمون الحشد الشعبي، وهي مجموعة من المقاتلين المتحالفين مع الجيش العراقي.
"لم يكن هناك أي طعام إلا الخبز لعدة أشهر فأصبح أولادي نحيلي الجسد وأصابهم المرض،" كما أفاد يونس البالغ من العمر 36 عاماً، مشيراً إلى طفليه التوأمين اللذين كانا يرتعدان خوفاً في زاوية من الشاحنة. وأضاف قائلاً: "استغرقت رحلتنا أكثر من تسع ساعات للوصول إلى هنا. كان السير محتملاً بالنسبة لي، ولكنه كان صعباً جداً على أطفالي، وظلت أحذيتهم تسقط وتلتصق بالوحل".
غادرت زوجة يونس بشكل منفصل في نفس الليلة، مع طفليهما الثالث والتوأمين الأصغر سناً، حتى لا يتم القبض عليهم ومعاقبتهم جميعاً. وفي اليوم السابق، شاهدوا برعب مقاتلي تنظيم الدول الإسلامية وهم يعتقلون رجلاً حاول الهرب، ويقطعون ذراعه عند العضد.
ولا يعرف يونس ما إذا كانت زوجته وأطفاله الصغار قد نجحوا في الخروج أم لا، ويأمل في العثور عليهم لاحقاً داخل المخيم الذي يتجهون إليه.
"كنا نريد الفرار منذ فترة طويلة، ولكننا اضطررنا للبقاء لرعاية والدي الذي كان يعاني من السرطان،" كما أوضح. كانت الحقن التي يحتاج إليها والده للعلاج تكلف 180 دولاراً لكل حقنة قبل نفاد الإمدادات بالكامل. ثم توفي والده قبل 10 أيام وبدأت الأسرة على الفور تخطط للهروب.
"كنت خائفاً جداً على أولادي وخشيت أن يحدث لهم شيء هناك أو خلال الهروب، لكننا لم نستطع البقاء لفترة أطول لأننا كنا معرضين لخطر الموت جوعاً أو لما هو أسوأ. ولمدة شهر تقريباً، لم تكن لدينا كهرباء أو وقود. ولم يكن لدينا ماء لأكثر من أسبوعين،" كما أفاد يونس.
المخيمات
وفي تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال مسؤول في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن أكثر من 50,000 شخص قد فروا حتى الآن من القطاع الغربي من الموصل، لكن هذا العدد أقل بكثير من التقدير الأصلي البالغ 700,000 مدني في غرب الموصل. وذكرت منظمة إنسانية واحدة على الأقل أن عدد المدنيين الذين لا يزالون داخل المدينة يبلغ حوالي 400,000 شخص.
ومن نقطة التفتيش، يسير النازحون أو تنقلهم شاحنات إلى مركز فحص في العراء، حيث يتم فحص بطاقات الهوية ومقارنتها بقاعدة بيانات خاصة بالجيش العراقي تضم الآلاف من أسماء أفراد وأتباع تنظيم الدولة الإسلامية المشتبه بهم. وفي معظم الأيام، يتم القبض على حفنة من الأشخاص، عادة من الرجال.
وبعد انتهاء هذا الفحص الأولي، يتم نقل الأسر النازحة إلى مخيمات أُقيمت قبل بدء الهجوم على غرب الموصل، لكي يتم تسجيل أفرادها وإخضاعهم للمزيد من إجراءات الفحص. وهذه العملية محفوفة بالمخاطر منذ بدء القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية - انتشرت مزاعم بوجود انتهاكات خطيرة في الماضي - وقالت الأمم المتحدة أن أفراد الأسرة أحياناً لا يتم إبلاغهم بمكان أقاربهم الذكور.
وفي غضون أسبوع من افتتاحه، امتلأ مخيم حمام العليل، وهو أقرب مخيم بُني خصيصاً لهذا الغرض ومصمم لاستيعاب 22,000 شخص، عن أخره. لكن قائد الفريق العسكري المسؤول عن الأمن في المخيم، والذي ذكر أن اسمه اللواء بشار، يؤكد "إننا كنا على استعداد لاستقبال جميع هؤلاء الناس".
"حتى أثناء حديثنا هذا، نقوم ببناء مخيم إضافي يتسع لـ1,000 شخص آخر، ولدينا خطط لبناء منطقة ثالثة لاستيعاب 5,000 شخص،" كما أفاد.
ولكن حتى تقديره المتحفظ بوصول 3,000 وافد جديد يومياً - 1,000 أقل من تقدير الأمم المتحدة - لا يمكن بناء المخيمات الجديدة بسرعة كافية.
"لقد شهدنا ارتفاعاً كبيراً في عدد الأسر النازحة من الموصل الأسبوع الماضي. نرى نحو 4,000 في المتوسط يرحلون كل يوم،" كما قالت المتحدثة باسم المفوضية كارولين غلاك.
وأضافت غلاك أن "المنظمات الإنسانية تعمل على مدار الساعة لمساعدة الأسر اليائسة والمصابة بالصدمة التي تغادر غرب الموصل. ويعمل موظفو المفوضية والشركاء طوال الوقت، بما في ذلك خلال عطلة نهاية الأسبوع، للتأكد من تسريع عمليات التوزيع واستمرار بناء مواقع جديدة - على الرغم من أن الأمطار الغزيرة والوحل الذي استمر لمدة يومين قد منع تنفيذ الكثير من أعمال البناء".
وواجهت جهود المفوضية لفتح مخيمات جديدة صعوبات في إيجاد أرض مناسبة لهؤلاء، إما لأسباب طبوغرافية، أو إمكانية الوصول إلى مصادر مياه، أو بسبب ملكية الأراضي المتنازع عليها.
وحتى تصبح هذه المخيمات والخيام الجديدة جاهزة، قال اللواء بشار أن حافلات ستنقل النازحين إلى مخيمات في شرق الموصل، التي بدأ بعض ساكنيها في العودة إلى منازلهم في المناطق المحررة من المدينة.
ومهما كانت أماكن الإقامة المتواضعة التي تننتظر آلاف النازحين من غرب الموصل، فإن معظمهم شاكرين لمجرد الحفاظ على حياتهم وحريتهم.
"لا أستطيع أن أصدق أننا وصلنا إلى هنا اليوم. لا زلت غير مصدق،"كما أفاد يونس، الذي لا يزال ينظر إلى النازحين الهابطين من فوق التلال بحثاً عن زوجته. "لقد انتظرنا لوقت طويل حتى نجحنا في الخروج. إن الوضع هناك فظيع، ولا تزال هناك أعداد كبيرة من الناس في الداخل. لا يستطيع كبار السن قطع هذه المسافة سيراً على الأقدام وهم عالقون هناك، وجوعى، بينما تتساقط قذائف الهاون في كل مكان،" كما أضاف والدموع تنهمر على وجهه.
وقام متطوع من الحشد الشعبي بمسح دموع يونس بإبهامه وأشعل له سيجارة. وقال يونس وهو يستنشق دخان السيجارة بعمق: "نحمد الله على أننا هنا، على قيد الحياة، اليوم".
(الصورة الرئيسية: عندما لا تكون هناك مركبات عسكرية متاحة عند الحاجز الأمني، ينبغي السير على الأقدام لعدة كيلومترات إضافية إلى مركز فحص النازحين. توم وستكوت/إيرين)
tw/as/ag-ais/dvh