تغرب الشمس على صوت الانفجارات البعيدة بينما يقف ثلاثة أطفال على جانب الطريق يبيعون الخبز المحلي الصنع لجنود ليبيين يقودون سيارتهم بين الخطوط الأمامية. هذه هي ضواحي سرت، حيث تتواصل المعركة ضد ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية، وحيث يوجد آلاف المدنيين الذين هم في حاجة ماسة إلى المساعدة.
إن الدنانير القليلة التي يكسبها هؤلاء الأطفال ثمينة. وحتى قبل بدء الهجوم في شهر مايو، كانت جميع البنوك مغلقة منذ أكثر من عام على طول هذا القطاع الساحلي الممتد لمسافة 300 كيلومتر والذي كان في السابق خاضعاً لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية.
في الأسبوع الماضي، أعلنت وزارة الدفاع الامريكية أنها تنوي توجيه ضربات جوية لمؤازرة حكومة الوفاق الوطني (GNA) المدعومة من قبل الأمم المتحدة في معركتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية، مما خلق أملاً في تحقيق انفراجة عسكرية. أما بالنسبة للسكان المحليين، الذين بالكاد يتدبرون أمورهم في المناطق القريبة من القتال، فإنهم يتعجلون نهاية حكم تنظيم الدولة الإسلامية.
وفي حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال علي، وهو من سكان الغردابية، التي تقع على الجانب الجنوبي من مدينة سرت: "إن الوضع بالنسبة لنا هنا خطير جداً بسبب النقص الرهيب [في الكثير من الأساسيات]. لكن الحاجة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لنا هي الرعاية الصحية. ليست لدينا مستشفيات ولا إمكانية للحصول على أي رعاية [صحية]".
تم إغفالهم
وبحسب تعداد السكان الذي أُجري في عام 2006، كان هناك 150,000 شخص في مدينة سرت، مسقط رأس الحاكم السابق معمر القذافي، ولكن فر ما يقدر بنحو 80 بالمائة منهم، بما في ذلك حوالي 50,000 في الأسبوعين الأخيرين من شهر أبريل فقط، عندما أعلنت قوات حكومة أخرى من الحكومات المتنافسة الثلاث في البلاد (يقع مقرها في مدينتي طبرق والبيضاء في شرق البلاد) شن هجوم على مدينة سرت، لكنه لم يتحقق بالفعل على أرض الواقع.
ولا تزال حكومة ثانية، التي تم تشكيلها في العاصمة من قبل جماعات مسلحة في عام 2014، صامدة. وكلتاهما ترفضان حكومة الوفاق الوطني - وهي الحكومة الثالثة التي تحظى باعتراف وسلطة محدودين، ولكنها اكتسبت اهتماماً دولياً كبيراً عن طريق دعم القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سرت.
تقارير ذات صلة
وقد ناضل عشرات الآلاف من المدنيين النازحين من سرت لإيجاد مأوى في مناطق أخرى من البلاد. وظلت مئات الأسر على حافة المدينة، طوال فترة حكم تنظيم الدولة الإسلامية الذي استمر لمدة عام واحد وخلال القتال الدائر طوال الأشهر الثلاثة الماضية على حد سواء.
ويعاني العديد من أولئك الذين ظلوا هناك من الفقر المدقع الذي يجعلهم غير قادرين على تحمل تكاليف الإيجار في أي مكان آخر، أو أنهم من المزارعين غير الراغبين في التخلي عن ماشيتهم، التي تعتبر مصدر رزقهم الوحيد.
كما أن المنازل مكتظة. فالكثيرون الآن يستضيفون أسراً أخرى فرت من المعارك الشرسة المحتدمة في وسط مدينة سرت، حيث لا يزال تنظيم الدولة الإسلامية يسيطر على ما يقدر بنحو 28 كيلومتراً مربعاً من الأراضي.
وقد أصبح الوضع الطبي يائساً بشكل خاص، إذ يشير علي إلى أن العديد من موظفي المستشفيات في مدينة سرت كانوا من الأجانب: "[هؤلاء] إما فروا أو زج بهم تنظيم الدولة الإسلامية في السجن، ونفدت كافة الأدوية تدريجياً حتى قبل بدء القتال".
من جانبه، قال أمجد البالغ من العمر 52 عاماً، لشبكة الأنباء الإنسانية أن زوجته لم تر طبيباً منذ أن أصبحت حاملاً قبل سبعة أشهر، وهي وأطفاله الأربعة بحاجة ماسة إلى الفيتامينات والأدوية الأساسية. ولم يحصل طفلاه الأصغر سناً على تطعيمات بعد نفاد المخزون في سرت.
ويشعر أمجد بالقلق من أن الأطفال الذين يعانون من أمراض يمكن علاجها قد أصبحوا الآن مستضعفين وأن المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم في حالة سيئة للغاية.
ويحث علي أياً من الحكومات الثلاث على إعادة تشغيل أي خدمات رعاية طبية يستطيعون تشغيلها في المناطق المحررة من تنظيم الدولة الإسلامية.
"يمكننا أن نتدبر أمورنا بلا شيء تقريباً لأننا تعودنا على ذلك،" كما أخبر شبكة الأنباء الإنسانية، ولكن "الناس لا يستطيعون الاستغناء عن الأطباء والأدوية. نحن بحاجة ماسة إلى المساعدة في هذا الشأن".
غياب المساعدة
وتجدر الإشارة إلى أن النقص المزمن في الغذاء يزيد من تفاقم حالات الطوارئ الطبية. وقد توقفت شحنات المواد الغذائية، وكذلك الأدوية، إلى سرت منذ عدة أشهر، بعد قيام تنظيم الدولة الإسلامية باختطاف سائقي الشاحنات مراراً وتكراراً، وفقاً لتقارير وسائل الاعلام المحلية.
وفي أحياء المدينة المحررة حديثاً من تنظيم الدولة الإسلامية، لا يوجد خلف واجهات المتاجر المحطمة سوى الرفوف الفارغة؛ فقد تم بيع البضائع أو نهبها منذ فترة طويلة.
في السواوة - وهي إحدى الضواحي الشرقية لمدينة سرت، حيث انهزم تنظيم الدولة الإسلامية في شهر يونيو - يقف محمد، وهو مهندس سابق، خارج متجر صغير استخدم جميع مدخراته لفتحه قبل خمسة أسابيع.
لقد كانت إتاحة المواد التموينية، حتى الضئيلة منها، للسكان المحليين قراراً إنسانياً دفعه إليه يأس جيرانه وأصدقائه، كما أخبر شبكة الأنباء الإنسانية.
وأضاف قائلاً: "لا أحد آخر جاء لتقديم المساعدة، ولذلك كان علينا أن نجد وسيلة لمساعدة أنفسنا".
ويقول محمد أنه يحاول إبقاء الأسعار منخفضة قدر المستطاع، ولكن حتى اللوازم الأساسية تضاعفت أسعارها ثلاث مرات عن ما كانت عليه قبل تولي تنظيم الدولة الإسلامية زمام الأمور في فبراير من العام الماضي.
وقد روع محمد أن يجد سكاناً محليين يقتاتون على بقايا الطعام بانتظام خارج المتجر، ويقول أنه في نهاية المطاف، كان يمنح الطعام بدون مقابل.
"كنت أجد أشخاصاً يأخذون الفواكه والخضروات المتعفنة من القمامة لأنهم لا يملكون المال ويخجلون من طلب المساعدة، ولكنني لا أسمح لهم بذلك، ودائماً أعطيهم ما أستطيع منحه،" كما أوضح.
"لا يهمني المال. يعاني كثير من الناس هنا من سوء التغذية الشديد لأنهم لا يملكون أي أموال، ولا يتناولون أطعمة مغذية منذ عام. ينبغي عليّ أن أساعدهم. هذا واجبي".
محاصرون
ومن المرجح أن لا يكون الأشخاص الموجودون على مشارف سرت هم الأسوأ حالاً. ويقال أن عدداً من الأسر لا تزال محاصرة في وسط المدينة.
وبحسب التقارير الواردة، منع تنظيم الدولة الإسلامية الناس من المغادرة في البداية، وبمجرد أن حاصرت القوات الليبية سرت في شهر مايو، أصبح من المستحيل الرحيل على أي حال لأن المتشددين شنوا حملة لا هوادة فيها من الهجمات الانتحارية على مواقع عسكرية.
ويتم التعامل مع أي مركبة أو شخص يحاول مغادرة وسط سرت كتهديد محتمل من قبل القوات الليبية.
"لقد أُبلغنا أن بعض المدنيين لا يزالون داخل سرت - عدد قليل من الأسر فقط - بعضهم لديه وسائل اتصال سرية بالانترنت عبر الأقمار الصناعية،" كما قال العميد محمد الغصري، الناطق باسم عمليات حكومة الوفاق الوطني في سرت، في تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية.
"قيل لنا أنهم بخير ولا تزال لديهم مواد غذائية، وقد أصدرنا تعليمات لغرفة العمليات للحد من الهجمات في تلك المناطق،" كما أضاف.
وأفاد الغصري أنه نشر تفاصيل الاتصال به على شبكة الإنترنت، وطلب من المدنيين الباقين في المدينة التواصل معه. لكنه قال أنه لم يتلق أية مكالمات حتى الآن.
التحرك ببطء إلى الأمام
ويقول مجموعة من الرجال الذين تجمعوا خارج متجر محمد الصغير أنه على الرغم من أن الحياة لا تزال صعبة، فإنهم ممتنون لكل خطوة صغيرة يخطونها نحو الحياة الطبيعية.
"لم يكن لدينا شيء تحت حكم داعش - لا دواء ولا نقود ولا بنوك ولا مدارس ولا رعاية صحية، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة كل يوم، ولم يكن لدينا ماء سوى لمدة ثلاثة أو أربعة أيام من كل شهر،" كما أفاد كريم البالغ من العمر 42 عاماً، مستخدماً المصطلح العربي الشائع لتنظيم الدولة الإسلامية.
تمت استعادة إمدادات المياه في الضواحي قبل شهر، وبعد ذلك بأسبوعين، عادت الكهرباء بعد توقف دام ثلاثة أشهر. مع ذلك، فإن الإمدادت إلى وسط سرت لا تزال مقطوعة، في محاولة لاستمرار الضغط على تنظيم الدولة الإسلامية.
"لقد بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها بعض الشيء. ليس مثلما كانت في الماضي، ولكن الوضع يتحسن تدريجياً يوماً بعد يوم،" كما قال محمد بتفاؤل، بينما كان صوت قذيفة هاوتزر أخرى يتردد صداه في الضاحية. "نحمد الله على بقائنا على قيد الحياة حتى الآن".
وقد أعطت الضربات الجوية الأمريكية دفعة للقوات الليبية، التي توقف توغلها إلى وسط سرت خلال الشهر الماضي.
ولكن حتى لو أمكن طرد تنظيم الدولة الإسلامية في نهاية المطاف، فإن السكان المحليين يدركون أن التعافى من محنتهم سوف يستغرق وقتاً أطول بكثير.
وفي السياق نفسه، قال محمد: "لقد عانينا من أشياء كثيرة تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية. كانوا يقتلون الناس كل يوم جمعة في ساحة البلدة، ويعلقون جثثهم في وسط الدوار. نحن لا نعرف حتى عدد الذين قتلوهم، لأننا في نهاية المطاف، كنا نغلق أجهزة التلفزيون والراديو الخاصة بنا لأننا لم نكن نريد لأطفالنا أن يتعرضوا لمثل هذه الفظائع".
ولكن على الرغم من كل جهوده، فإنه يعترف بأن أطفاله الخمسة أصيبوا جميعاً بصدمات نفسية.
"إنهم خائفون جداً ويسألونني باستمرار: يا أبي، أين تنظيم الدولة الإسلامية؟ هل سيعودون؟ وأنا أقول لهم أن تنظيم الدولة الإسلامية قد انتهى تقريباً. آمل أن يكون هذا صحيحاً.. أعتقد أنه كذلك،" كما قال.
tw/as/ag-ais/dvh
(الصورة في الأعلى: المناطق السكنية في مدينة سرت يحتلها الآن قناصة تنظيم الدولة الإسلامية ويقال أنها مليئة بالعبوات الناسفة والألغام. توم وستكوت/إيرين).