"الناس أكثر أهمية من الآثار".
هكذا يقول حسن أحمد، الذي كان يقيم في مدينة تدمر، التي استولى عليها الجيش السوري الأسبوع الماضي بعد أن ظلت تحت سيطرة ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية لمدة 10 أشهر.
إن النداء الذي توجه به أحمد إلى شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) نداء صادق: "أريدكم أن تنقلوا إلى المنظمات والمؤسسات الدولية ضرورة الاهتمام بسكان تدمر الذين فقدوا منازلهم، وليس فقط بالآثار".
وأحمد هو واحد من آلاف السكان الذين فروا من المدينة التي تقع في وسط سوريا وتشتهر بآثار من العصر اليوناني-الروماني، بعد استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية عليها في شهر مايو من العام الماضي، وإجبار السكان المحليين على الالتزام بعقائده المتطرفة أو مواجهة الإعدام العلني. ووجد معظم سكان المدينة الذين يبلغ عددهم 50,000 نسمة (وفقاً لتعداد 2004) أنفسهم من بين ما يقدر بنحو 6.6 مليون نازح داخلياً في سوريا، غالباً ما يتم نسيانهم في خضم الحرب الأهلية المستمرة في البلاد.
العودة إلى ماذا؟
والآن، وبعد تحرير المدينة، يتوق أحمد إلى العودة، لكنه يشعر بالقلق بشأن ما يمكن أن يكون قد تبقى من منزله. ويظهر حماس أحمد وهو يصف تفاصيل منزله المعمارية المتواضعة، ويشير بيديه لتوضيح شكله الخارجي.
لكن القتال العنيف ألحق دماراً شديداً بمدينة تدمر - أولاً عندما طرد مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية القوات الحكومية من المدينة في العام الماضي، ومرة أخرى أثناء هجوم الجيش السوري لاستعادة السيطرة على المدينة في أواخر مارس. وقد دعمت الطائرات الحربية الروسية الجيش في هجومه وقامت بقصف تدمر من الجو ولم يتم بعد الكشف عن مدى الدمار الناتج عن تلك الغارات.
وأكد أحمد أن "معظم الناس في تدمر فقراء للغاية ولا أعرف كيف سيتمكنون من إصلاح منازلهم،" مضيفاً أنه يأمل أن يتحول الاهتمام الدولي قريباً من آثار تدمر التاريخية إلى حياة سكانها المدمرة ومنازلهم المفقودة.
والجدير بالذكر أن التدمير لم ينته بعد؛ فلا تزال فرق من خبراء المتفجرات تقوم بتفجير مئات العبوات الناسفة التي تركها تنظيم الدولة الإسلامية داخل الممتلكات والمباني في مختلف أنحاء المدينة. وقال رئيس قسم المعلومات في الجيش السوري، اللواء سمير سليمان، أن معظم الشراك الخداعية كانت على درجة عالية من التعقيد ومزروعة في أماكن غير عادية بحيث يستحيل إبطال مفعولها ولذلك كان لابد من تفجيرها.
حكايات مرعبة
وعلى مشارف محافظة حمص التي لحق بها الدمار بسبب أشهر من القتال في عام 2012، تعيش أُسر من تدمر في غرف منفصلة داخل مدرسة تم تحويلها إلى مخيم مؤقت من قبل الهلال الأحمر العربي السوري.
وكان أسامة البالغ من العمر 50 عاماً قد سُجن لمدة سبعة أشهر بأمر من قادة تنظيم الدولة الإسلامية، ثم نجح أخيراً في الفرار على متن حافلة صغيرة مكتظة بالهاربين الآخرين. واضطر الرجال والنساء والأطفال للوقوف متلاصقين في الحافلة، بينما كانت تترنح عبر التضاريس الصحراوية القاحلة. تعقب أسامة زوجته وأطفاله السبعة وصولاً إلى المخيم، حيث كانوا قد نجوا من فصل الشتاء القارس عن طريق لصق أكياس بلاستيكية على النوافذ والتجمع تحت البطانيات.
ونظراً للصدمات التي تلقاها جراء مشاهدة العقاب البدني والإعدام - قطع الأيدي عقاباً على التدخين وإعدام المئات عقاباً على الولاء لحكومة الرئيس بشار الأسد أو جيشه وترك أجسادهم لتتعفن في الشوارع - حث أسامة الاتحاد الأوروبي على الاعتراف بمعاناة تدمر وتقديم الدعم لها.
وقد ملأ الرعب وجهه المكسو بآثار الطقس المتقلب عندما تذكر الأشهر الطويلة التي عاشها في الجحيم. ومثل معظم السكان السابقين، رفض التقاط صور له أو الإفصاح عن اسم عائلته.
ويعرف أولئك الذين عاشوا تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية المعنى الحقيقي للرعب، ومعظم الأُسر في تدمر لديها أقارب قُتلوا خلال حكم تنظيم الدولة الإسلامية الوحشي للمدينة وقد رووا قصصاً مروعة عن فقدان الأهل والهمجية. وكان صوت بدرية حسين (62 عاماً) الهستيري أعلى من بقية الأصوات في تلك المدرسة في حمص عندما صرخت قائلة: "أود أن أحكي قصتي. أرجوك دعني أتكلم!"
"لقد قتلوا ابنتي لمجرد رفضها ارتداء النقاب، لكنهم لم يخبروني لمدة شهر، وشاهدوني أذهب كل يوم إلى قاعة الزفاف التي حولوها إلى سجن، وأحاول عمل أي شيء للإفراج عنها،" كما قالت.
في نهاية المطاف، أعطوا بدرية وثيقة صادرة من محكمة تنظيم الدولة الإسلامية توضح بالتفصل أسباب إعدام ابنتها - السخرية من تنظيم الدولة الإسلامية ورفض ارتداء النقاب. إنها تحمل الوثيقة المطوية بعناية في حقيبتها لأنها الشيء الوحيد المتبقي الذي يذكرها بابنتها.
وقالت وهي تبكي: "رفضت أن تتوب فقتلوها. وكان ابن عمي ضابطاً في الجيش فقطعوا رأسه، ثم مزقوا جسده ونثروا القطع على الأرض". لقد تحول حزنها إلى حالة هستيرية من عدم التصديق. وأضافت: "لقد ذبحوا ممرضات لأنهن كنّ يعملن في المستشفى الحكومي وقتلوا عائلات ضباط الجيش بأكملها. أرجو أن لا يضطر أحد أبداً لرؤية ما رأيناه".
من جانبه، قال أحمد أنه لا يستطيع تخيل عدد الناس الذين قُتلوا: "شاهدتهم يقطعون رؤوس 40 شخصاً أو يطلقون النار عليهم في اليوم الأول فقط. وفي النهاية، أعتقد أن حوالي 1,000 شخص فقط كانوا يعيشون هناك. لقد هربت أعداد كبيرة من الناس أو تم إعدامهم".
لا يزال الانتظار مستمراً
لا تزال أعداد لا تحصى في عداد المفقودين، والعديد من الأطفال الصغار، الذين يعيشون مع أجدادهم أو أقاربهم في المخيم، لا يعرفون ما إذا كان آباؤهم أحياءً أم أموات.
وقالت بدرية أنها تخشى على أفراد أسرتها الذين لم يتمكنوا من الهرب، بما في ذلك ابنة أخرى وستة أحفاد. "لم تتمكن ابنتي من المغادرة لأن لديها ابناً معاقاً، ولكنها كانت مرعوبة من أن يأخذ داعش [الاسم العربي لتنظيم الدولة الإسلامية] أكبر أبنائها. كانوا يأخذون أي أولاد أكبر من 10 سنوات عنوة ويدربونهم على القتال،" كما أفادت.
وعلى الرغم من الخسائر والدمار الذي ينتظرهم، كان النازحون يشعرون بسعادة غامرة لاحتمال عودتهم إلى ديارهم - بمجرد أن ينتهي الجيش السوري من تطهير المدينة من العبوات الناسفة - ويثنون كثيراً على القوات الحكومية.
لقد كانت تدمر أحد معاقل الأسد قبل الاستيلاء عليها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية بفترة طويلة، وكان استيلاء التنظيم عليها ثم استعادة السيطرة عليها من قبل الجيش بمثابة انتصار للحكومة السورية التي أنهكها الصراع على المستوى العسكري وفي مجال العلاقات العامة على حد سواء.
وفي هذا الصدد، قال أسامة: "لقد منّ الله بالقوة على جيشنا والتحالف الروسي الذي ساعدنا على استعادة تدمر مرة أخرى من تنظيم الدولة الإسلامية".
ولكن بالنسبة للكثيرين، هناك فظائع أخرى تفسد عليهم أي شعور بالبهجة بتحرير تدمر.
لقد تلقت ريم، التي هربت من تدمر مع أخواتها سيراً على الأقدام ومشت لمدة يومين عبر الصحراء، للتو أنباءً تفيد بإعدام والدها وشقيقها في الشهر الماضي عقاباً على رفضهما الانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية. ولكن بطريقة أو بأخرى، وجدت السيدة البالغة من العمر 24 عاماً بريقاً من الأمل: "أكره الأشخاص الذين قتلوا أسرتي، ولكنني أستطيع أخيراً أن أشعر بالتفاؤل بشأن المستقبل".
tw/as/ag-ais/dvh
تم نشر النسخة العربية في 5 مارس 2016