تهز الاحتجاجات محافظات العراق التي تهيمن عليها الطائفة السنية منذ شهرين تقريباً، مما يثير التوترات الطائفية في مرحلة ما بعد الحرب الهشة في البلاد.
وقد أثارت الإجراءات وردود الفعل اللاحقة المخاوف بين العراقيين ولدى الأمم المتحدة من عودة هذا النوع من العنف الذي أدى إلى قتل عشرات الآلاف من الناس خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في الفترة من 2006 إلى 2008.
وقد أدت أحدث موجة من التفجيرات في 8 و11 فبراير - وهي جزء من الهجمات المستمرة منذ انسحاب القوات الأمريكية في أواخر عام 2011 - إلى مقتل عشرات الأشخاص وزيادة تلك المخاوف.
ما سبب التصعيد الأخير في التوتر؟
بدأت الاحتجاجات في ديسمبر بعد اعتقال الحكومة العراقية التي يقودها الشيعة 10 من الحراس الشخصيين لزعيم سني بتهمة الإرهاب في ما اعتبره العديد من الناس إجراء سياسي. فقد تم اعتقال حراس رافع العيساوي، وزير المالية والقيادي في ائتلاف القائمة العراقية السياسي السني، بعد ثلاثة أشهر فقط من صدور حكم غيابي بالإعدام على زعيم سني آخر، وهو نائب الجمهورية طارق الهاشمي، بناءً على مزاعم بأنه يقود فرقة اغتيالات.
وقد أعرب المتظاهرون السنة عن شعور متزايد بإهمال طائفتهم منذ الإطاحة بالرئيس العراقي السني صدام حسين في عام 2003. وتتضمن مطالبهم المزيد من التأثير على عملية صنع القرار، والإفراج عن المعتقلين (خاصة النساء المعتقلات)، وإلغاء قانون اجتثاث البعث (الذي يفرض حظراً على تعيين الأعضاء السابقين في حزب البعث الذي كان يقوده صدام حسين - وغالبيتهم من السنة - في وظائف الخدمة المدنية)، وإلغاء قانون مكافحة الإرهاب الذي يقول السنة أنه يستخدم ضدهم فقط. وهناك دعوات متزايدة للاطاحة بالحكومة.
وقد تضخمت الاحتجاجات وانتشرت في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، حيث أعلن السكان عن تأييدهم لرئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي وأصروا على عدم عودة أعضاء حزب البعث إلى السلطة.
وفي الأسبوع الماضي، ارتفعت حدة التوتر أكثر عندما أعلن واثق البطاط، رئيس حزب الله في العراق، وهي جماعة شيعية متشددة، في 4 فبراير عن تشكيل جيش المختار. وهدد البطاط بأن هذه الميليشيا ستقاتل ضد المتظاهرين إذا سيطر عليهم تنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى.
وأوضح في مؤتمر صحفي في بغداد أن "الأكراد لديهم ميليشيات تحميهم، والسنة لديهم تنظيم القاعدة، لكن ليس للشيعة من يحميهم...هذا هو السبب في قيامنا بتشكيل هذا الجيش - لحماية الشيعة والعراقيين بشكل عام من تنظيم القاعدة والجيش العراقي الحر،" في إشارة إلى جماعة سنية متشددة جديدة تقول أنها تقاتل للإطاحة بالحكومة. "سوف نقوم بتنفيذ هجمات ضدهم".
وبعد أيام قليلة من مؤتمره الصحفي، أصدرت الحكومة مذكرة اعتقال ضده، لكنه لا يزال طليقاً. وهدد السنة منذ ذلك الحين بتنظيم احتجاجات في شوارع بغداد.
ما هي الأسباب الجذرية لهذه الطائفية؟
يشير محللون وشخصيات سياسية إلى عودة ظهور الهويات الطائفية أو العرقية منذ عدة عقود. فقد أدت سياسات صدام حسين الإقصائية و10 سنوات من العقوبات إلى إضعاف مؤسسات الدولة، وتقلص الطبقة الوسطى العلمانية - خاصة الأطباء والمهندسين - وعودة الهويات الطائفية باعتبارها من العناصر الرئيسية التي تحكم المجتمع العراقي.
وأوضح المحلل السياسي إحسان الشمري أن صدام "اختار سياسة دولة الحزب الواحد، وقضى على الآخرين جميعاً ... ثم بدأ في القضاء على شخصيات بارزة داخل حزبه ... ثم أراد إبقاء السلطة داخل عائلته فقط".
وإلى جانب الانتماء السياسي لحزب البعث، غالباً ما كان الانتماء إلى طائفة أو مجموعة عرقية معينة يعني توافر فرص مميزة للحصول على عمل أو ترقيات.
وفي ظل النظام الجديد، أصبح التداخل بين الانتماء السياسي والهوية الطائفية والعرقية حتمياً: فمعظم الأحزاب السياسية لديها طبيعة طائفية أو عرقية محددة الآن.
ونظراً لفشل مساعي إعادة بناء دولة عراقية فعالة، لم يجد العراقيون خياراً آخر سوى العودة إلى هوياتهم الطائفية لضمان أمنهم (على سبيل المثال، أدى الصراع المدني إلى إنشاء أحياء "سنية" أو "شيعية" في بغداد) والارتباط بالأحزاب السياسية القائمة على الطائفة للوصول إلى سوق العمل، والترقيات أو حتى توفير الخدمات الأساسية.
ما هو المخرج؟
إصلاح الطبقة السياسية
وقال الشيخ أحمد عبد الرحمن من قبيلة الأنبار، الذي ساعد في قيادة المظاهرات في محافظة الأنبار، التي شهدت بداية الاحتجاجات في ديسمبر الماضي: "نحن بحاجة لحكم التكنوقراط في هذا البلد. في هذه الحالة، لن يهتم شعبنا إذا كان الزعيم سنياً أو شيعياً".
ويقول مراقبون أن القادة العراقيين يستخدمون الطائفية في الترويج لأنفسهم، وأن انعكاس سلوكهم هذا من شأنه أن يقطع شوطاً طويلاً نحو حل المشكلة.
خذ مثلاً مقتدى الصدر، وهو سياسي شيعي بارز قاد ميليشيا جيش المهدي خلال الحرب الأهلية لكنه بعد ذلك مد يده إلى الطائفة السنية. وخاطبهم في كلمة عن الاحتجاجات قائلاً: "أنا معكم في مطالبكم، وسوف أدعمكم فيها، لكن لا تدعو إلى عودة البعث ولا تحملوا أعلام وشعارات البعث". وبعد عدة أيام من إلقائه هذا الخطاب، توقف المتظاهرون السنة عن هذه الأعمال، بل وحملوا أعلام شيعية خاصة بالإمام الحسين وغيره، للمرة الأولى في تاريخ محافظة الأنبار.
وتكمن جذور المشكلة في أزمة العراق السياسية، التي جعلت البرلمان العراقي في حالة جمود منذ عام 2010، وغير قادر على دفع البلاد إلى الأمام بسبب الانقسامات العميقة بين السياسيين الطائفيين المتنافسين على السلطة.
وأكد علي العلاق، وهو شيخ شيعي وعضو اللجنة البرلمانية للشؤون الاجتماعية، أن "السياسيين يجب أن يكونوا على دراية ويتحدثوا بنبرة هادئة لمنع انعكاس الأزمات السياسية على الشارع. ففي بعض الأحيان، يلقي عضو في البرلمان خطاباً على شاشة التلفزيون، وفي اليوم التالي نشهد انفجاراً".
وقال مارتن كوبلر الممثل الخاص لأمين عام الأمم المتحدة في العراق في بيان بعد تفجيرات 8 فبراير أن "الواجب يفرض على القادة العراقيين إيجاد حل للأزمة السياسية الراهنة في البلاد. ومن واجبهم ومسؤوليتهم الجلوس معاً ليروا ما يمكن عمله لوضع حد لهذا العنف الشنيع والرهيب".
وتصر مجموعة الأزمات الدولية (ICG) على ضرورة تنفيذ رئيس الوزراء لاتفاق تقاسم السلطة الذي تم التوصل إليه في عام 2010 وتنحيه في نهاية فترة حكمه الحالية، بدلاً من الترشح لولاية ثالثة في عام 2014. وذكر تقرير للمجموعة في يوليو 2012 أنه "في المقابل، يجب على منافسيه إلغاء جهود الاطاحة به، واستخدام قوتهم البرلمانية لبناء مؤسسات دولة قوية، مثل لجنة انتخابية مستقلة، وضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة".
الحد من التدخل الأجنبي
خطوة هامة أخرى في نزع فتيل التوتر في العراق هي "الحد من النفوذ الإيراني في العراق، الذي يحاول تسليط الضوء على الخلافات الطائفية،" كما أشار وليد خدوري، وهو خبير في الشؤون العراقية ورئيس تحرير سابق لمجلة "ميدل ايست ايكونوميك سيرفي". ومن المرجح أن يكون هذا أكثر صعوبة في المستقبل، عندما تفقد إيران موطئ قدمها التقليدي في الشرق الأوسط (سوريا)، ونتيجة لذلك تتطلع إلى تعزيز نفوذها في العراق.
كما يصف آخرون، مثل العلاق، تركيا بأنها محرض يحاول تشجيع الطائفة السنية في العراق على الثورة على نظام الحكم.
وأضاف: "يجب أن نجري محادثات جادة مع الأمم المتحدة للعب دور أفضل في منع الدول الأخرى من التدخل في قضايا العراق الداخلية. ويجب أن يتم التنسيق الأمني مع دول الجوار من أجل منع الإرهابيين والأشخاص الذين ينفذون أجندات خارجية من دخول العراق وزيادة التوتر على أراضيه".
خلق الروادع القانونية
ويتعين على الحكومة أيضاً وضع حدود قانونية لخطاب الكراهية سواء في الخطب أو على شاشة التلفزيون أو على شبكة الإنترنت، لتجعل من المستحيل على القادة دعوة أتباعهم إلى "قتل الشيعة" أو "تحرير بغداد من الشيعة"، حسبما ذكر المراقبون.
رفع تكلفة الانقسامات
ويريد كل من السنة والشيعة تجنب العودة إلى نوع العنف الذي مزق البلاد في عام 2006، ولكن كيف يمكن ترسيخ هذا الفهم الفكري؟ اقترح سرمد الطائي، وهو صحفي وكاتب عراقي معروف، رفع تكلفة التوتر.
وأضاف أن "التجارة والأعمال التجارية كانت دائماً وسيلة لإنهاء أي نوع من التوتر، حتى بين الأعداء. يجب أخذ الخسائر المالية خلال الحرب الأهلية في الاعتبار، لإظهار أن الجميع خاسرون، وليس هناك فائز".
وذكر حالة منطقة شمال كردستان العراق المتمتعة بالحكم الذاتي وجارتها تركيا، التي تكافح لاحتواء الانفصاليين الاكراد على أراضيها.
"هناك مشاكل سياسية كبيرة بينهما، لكن الأعمال التجارية والمنافع الاقتصادية المشتركة بين البلدين جعلت مسعود برزاني [زعيم كردستان العراق] ورجب طيب أردوغان [رئيس وزراء تركيا] من أهم الشركاء في المنطقة اليوم،" كما أشار.
وأضاف أن "الحلول الاقتصادية في بعض الأحيان تكون أكثر أهمية من أي حل سياسي".
بدء حوار وطني
وقال العلاق أن "أهم جزء هو الجزء الفكري والثقافي". وأوصى بعقد مؤتمرات وورش عمل يقودها "مثقفون معتدلون" للحديث عن التسامح.
وأضاف قائلاً: "ينبغي علينا أيضاً تمكين قادة المجتمع المعتدلين بين السنة والشيعة".
ويشير الطائي إلى "الشيعة الذين يقولون: لا يمكننا أن نبني بلدنا ما لم نتحد مع الآخرين، هم الذين يؤمنون بالنظام التعددي، والذين يعتقدون أن دعم الآخرين هو ما سيحمي مصالح الشيعة،" وليس أولئك الذين يدعمون استراتيجية المالكي "لإضعاف أهل السنة والأكراد".
وأضاف أن "الشيعة يسيطرون على كل شيء في البلاد. وهم بحاجة إلى إعادة تحديد دورهم في العراق".
إعادة تثقيف الشعب
وسلط كثير من الناس الذين تحدثت إليهم شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) الضوء على الحاجة إلى إعادة تثقيف المجتمع العراقي عبر كافة الوسائل من الخطب في صلاة الجمعة إلى المسلسلات التلفزيونية والكتب التي من شأنها أن تسلط الضوء على مخاطر النعرات الطائفية والأهداف المشتركة التي يتقاسمها العراقيون.
"يجب أن تركز الخطب الموجهة للشيعة في صلاة الجمعة على طمأنتهم أن وجود شخص سني في السلطة لا يعني عودة صدام،" كما أوضحت هيفاء أحمد، وهي معلمة في المرحلة الثانوية متخصصة في الطبقات الاجتماعية والمجتمعية. وقالت أن هناك خطوات بسيطة يمكن اتخاذها، مثل إزالة الأعلام الشيعية من الشوارع.
ويمكن أن تلعب المرجعيات السنية والشيعية دوراً كبيراً عن طريق توعية الأئمة وتشجيع الصلوات المشتركة، وإصدار الفتاوى التي تمنع الخلط بين الدين والسياسة.
وقال عبد الرحمن، وهو إمام مسجد: "يجب على السنة والشيعة أن يتعلموا كيف يغفرون، وكيف ينسون الانتقام والدم، فالإسلام يقوم على التسامح، وليس الانتقام والقتل".
da/ha/cb-ais/dvh
This article was produced by IRIN News while it was part of the United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs. Please send queries on copyright or liability to the UN. For more information: https://shop.un.org/rights-permissions