منذ التوصل إلى اتفاق في العاصمة الكازاخستانية أستانا في مطلع هذا الشهر لتخفيف حدة الصراع في غرب سوريا، توجهت جميع الأنظار صوب شرق البلاد. بدأ الرئيس السوري بشار الأسد وحلفاؤه للتو عملية "السيطرة على الصحراء الشرقية في سوريا". ولا يقتصر الأمر على إخراج الجماعة السنية المتطرفة المعروفة باسم "تنظيم الدولة الإسلامية"، بل يتعلق أيضاً بمنع المنافسين الآخرين من ملء الفراغ.
ويُعد اتفاق أستانا انعكاساً للحقائق الجديدة أكثر منه محركاً لمنطق الحرب الجديد الذي تسعى من خلاله جميع الأطراف إلى تحقيق أقصى قدر من المكاسب لأنفسها في سوريا مفتتة. وعلى الرغم من أن معارضي الأسد لا يزالون مترددين في قول ذلك علناً، إلا أنهم يعملون بشكل متزايد على افتراض أن الدعم الروسي والإيراني قد نجح في إنقاذ نظامه في دمشق، والأسئلة المحورية الآن هي: ما هي المناطق التي سيكون قادراً على استعادتها وكيف ومن أي طرف؟
وقد أثار وجود مستشارين أمريكيين وأردنيين وأتراك وغيرهم من الأجانب بين بعض الجماعات المعارضة شبح تقسيم سوريا؛ ليس بمعنى التقسيم الرسمي، بل باعتباره "نزاعاً مجمداً" يمكن أن تظل فيه المناطق النائية مستقلة عن دمشق المهيمنة بسبب صفقات تسوية النزاع التي تم التفاوض بشأنها بين الحكومات الأجنبية. ويبدو أن هذه المخاوف، سواء كانت تستند إلى أسس سليمة أم لا، تلعب دوراً بارزاً في تفكير الأسد وحلفائه الإيرانيين الذين يشعرون بالقلق من أن المقاتلين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة في قوات سوريا الديمقراطية سيستولون على شمال سوريا، بينما يفرض المعارضون الآخرون المدعومون من الولايات المتحدة سيطرتهم على باقي الحدود مع العراق.
ولتعزيز موقفها الهش في الصحراء وعلى طول الحدود الشرقية، تستخدم الحكومة السورية الهدوء النسبي في غرب سوريا للتوغل شرقاً على ثلاثة محاور رئيسية هي: شمال سوريا إلى الشرق من حلب، وسط سوريا من تدمر باتجاه دير الزور، وفي الجنوب الشرقي على طول الحدود مع الأردن والعراق. دعونا نلقي نظرة على كل محور على حدة:
الجبهة الشمالية: من مسكنة إلى الرقة
في 13 مايو، استعادت القوات الحكومية السورية قاعدة الجراح الجوية شرق حلب، وهي تتحرك الآن باتجاه الجنوب الشرقي بمحاذاة بحيرة الأسد باتجاه مسكنة. وبعد مسكنة ستأتي مدينة الطبقة، وهي مدينة تضم سد كهرمائي حيوي استولت عليه قوات سوريا الديمقراطية مؤخراً كجزء من عملياتها لتطويق الرقة من الشمال. ومن المرجح أن تكمل الحكومة هذه التحركات بالتوغل باتجاه الطبقة من بلدة إثريا الصغيرة على طريق حلب-حماة.
وعلى المدى القصير، قد يسعى الأسد إلى تحقيق مكاسب سهلة، فقد أصبحت المنطقة المحيطة بمسكنة منفصلة إلى حد ما عن الرقة منذ سقوط بلدة الطبقة، ومن غير المحتمل أن يهدر الجهاديون موارد كبيرة لمحاولة الاحتفاظ بها. مع ذلك، فإن أهداف النظام على المدى الطويل قد تكون أكثر تعقيداً. من غير المحتمل أن يريد الأسد الدخول في معارك مع الأكراد وداعميهم الأمريكيين، أو أن يستطيع الاعتماد على الدعم الروسي للقيام بذلك، ولكن يجب على قواته الانتقال إلى منطقة الرقة إذا كان يأمل في استعادة نفوذه في الطبقة والرقة.
وقد يأمل الزعيم السوري في أن يؤدي الالتزام الأمريكي الطويل الأجل الضعيف بدعم الأكراد السوريين إلى الموافقة على اتفاق لتقاسم السلطة يمكن أن يرغمهم في نهاية المطاف، عندما يتراجع النفوذ الأمريكي، على العودة إلى أحضان الأسد. إن عداء تركيا لقوات سوريا الديمقراطية يترك القوات الكردية السورية مكشوفة وتحتاج إلى حلفاء، الأمر الذي قد يدعم قدرة الأسد التفاوضية.
إنها مقامرة، ولكنها ليست سيئة. وتزعم مصادر النظام أنه يسعى إلى استعادة سد الطبقة، ليس من خلال القتال بل من خلال المفاوضات باستخدام وسطاء أكراد. وفي السياق نفسه، قال دبلوماسي غربي في حديث مع صحيفة "وول ستريت جورنال" أن الولايات المتحدة قد ترغب أيضاً في تسليم الرقة إلى "مجلس مدني محلي يتعاون مع النظام السوري" ويمكنه بعد ذلك أن "ينقل السيطرة على المدينة إلى النظام". قد تبدو هذه المناورة بعيدة المنال اليوم، ولكن عندما تسقط الرقة، ستكون أقرب كثيراً إلى الواقع.
ولا شك في أن الكثير سيعتمد على الخيارات الأميركية والتركية المقبلة، ولكن الخطوة الأولى بالنسبة للأسد هي التحرك إلى المكان المناسب وضمان عدم الانقطاع عن الأحداث.
الجبهة المركزية: إعادة فتح الطريق إلى دير الزور
يبدو أن الهجوم الثاني، والأهم بين هجمات الأسد في شرق البلاد، سوف يبدأ من تدمر حيث استعادت الحكومة السورية السيطرة على حقول غاز قيمة وتستعد الآن للتحرك نحو مفترق الطرق الذي يسيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة السخنة. تقع الرقة شمال السخنة، بينما تقع دير الزور شرق السخنة. وتتحدث الحكومتان السورية والروسية عن دير الزور كهدف رئيسي في عملياتهما الحالية، التي يبدو أنها تجري بالتنسيق مع هجمات الميليشيات المدعومة من إيران عبر الحدود بالقرب من سنجار.
تعاني دير الزور من الحصار منذ سنوات، وتضم حامية صغيرة من الجيش السوري تعاني من ضغوط تفوق طاقتها وتخسر معركتها ضد الجهاديين ببطء. وبحسب تقارير الأمم المتحدة، يعيش نحو 93,500 مدني حالياً في جيبين من الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة ويعانون أشد المعاناة. وفي وقت ما، قيل أن كيس السكر يكلف ما يعادل 450 دولاراً، وفي عام 2016، تلقت الأمم المتحدة تقارير عن وفيات ناجمة عن الجوع، مما دفع برنامج الأغذية العالمي إلى البدء في إلقاء الطعام على المدينة بالمظلات. وتعطل إنزال المساعدات جواً في يناير 2017 بسبب هجوم جهادي قسم الجيب إلى قسمين، ولكنه استؤنف في وقت لاحق باستخدام مواقع إنزال جديدة. وعندما شهد الجسر الجوي نهاية عامه الأول في أبريل 2017، كان قد نفذ ما مجموعه 231 عملية إنزال جوي شملت ما مجموعه 4,407 أطنان مترية من الأغذية واللوازم الأخرى.
وإذا سيطرت الحكومة السورية على السخنة، سوف تتمكن من إعادة ربط دير الزور بغرب سوريا والعاصمة، بكل ما يتضمنه ذلك من تعزيزات عسكرية، واتصالات إدارية، وإمكانية الوصول إلى الأسواق، وتقديم الإغاثة الإنسانية للمناطق الخاضعة لسيطرة النظام في شرق سوريا. كما أنه سيسهل إلى حد كبير توسع الأسد نحو الحدود من خلال مساعدته على إعادة بناء الجهاز الإداري في عاصمة المحافظة وتوسيع شبكة المنشآت الأمنية والخدمات العامة التي عملت على إبقاء المدنيين غير المنحازين في مدار الأسد في جميع أنحاء سوريا. وإذا ساد الهدوء في غرب سوريا، فإن استعادة السيطرة على دير الزور يمكن أن تكون نقطة انطلاق الأسد لاستعادة آبار النفط التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في شرق سوريا، وتحدي سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على الشمال الشرقي، وإعادة الاتصال بالعراق من خلال معبر البوكمال الحدودي.
وتعتبر المعابر الحدودية في البوكمال، جنوب شرق دير الزور، والتنف الذي يقع شرق دمشق مصدر قلق كبير لحكومة الأسد. ولا يزال البوكمال في قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، لكن الجهاديين فقدوا السيطرة على التنف خلال معارك مع مقاتلين مدعومين من الولايات المتحدة والأردن في مارس 2016. ومنذ ذلك الحين، يستخدم التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية قاعدة التنف لتدريب وتجهيز المعارضين السوريين للتصدي للجهاديين. وفي الآونة الأخيرة، بدأت فصائل المعارضة في التنف الاستيلاء على القرى والنقاط الحدودية في الصحارى الجنوبية الشرقية، وفي الوقت نفسه، شنت غارات باتجاه البوكمال، وسط تقارير عن عمليات إنزال جوية أمريكية. وفي حال نجحت فصائل المعارضة في التنف في الاستيلاء على البوكمال، بينما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على المعابر التي تقع إلى الشمال، فإن الجماعات المدعومة من الولايات المتحدة ستسيطر على كامل الحدود السورية العراقية.
وبالنسبة للأسد وحلفائه، فإن هذا يشكل مصدر قلق بالغ. وقد أدى فقدان الحكومة لأخر معابرها على الحدود الأردنية والعراقية في عام 2015 إلى إلحاق أضرار بالغة بالتجارة مع الدول المجاورة، وحُرمت الشركات السورية من الوصول إلى أسواق الخليج وإيران ومصر عن طريق البر. كما أضر بالتجار اللبنانيين والعراقيين والأردنيين الذين يعتمدون على العبور عبر سوريا. بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة إنشاء طريق برية آمنة بين دمشق وبغداد - وكذلك بين بيروت وطهران - سيكون له أهمية عسكرية ولوجستية كبيرة. في المقابل، يبدو أن بعض صانعي القرار في الولايات المتحدة يريدون منع ذلك، كوسيلة للحد من النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان.*
وقد ألمحت الميليشيات العراقية الموالية لإيران مراراً إلى أنها ستدخل سوريا لمساعدة الأسد على تحقيق الاستقرار في المناطق الحدودية بمجرد انتهائها من تطهير جيوب تنظيم الدولة الإسلامية حول الموصل وتلعفر وسنجار. لكنهم لم يحققوا ذلك حتى الآن، وعلى الجانب السوري، تأمل فصائل المعارضة في التنف في الوصول إلى البوكمال أولاً. وقال قائد المقاتلين المدعومين من الولايات المتحدة مؤخراً لموقع الأخبار سوريا دايريكت "إن أهدافنا واضحة، نريد أن نسبق الميليشيات [الموالية للنظام] التي تتقدم باتجاه دير الزور". وإذا استطاعوا تثبيت أنفسهم هناك بدعم أميركي، فقد يكون من الصعب استعادة السيطرة على تلك المنطقة من قبل قوات الأسد لأنه من غير المرجح أن يرغب حلفاؤه الروس ضرب قوات معارضة مليئة بالمستشارين العسكريين الأمريكيين.
وتضغط القوات الموالية للأسد الآن على منطقة التنف من الغرب والشمال، وربما يرجع ذلك جزئياً للحد من أثر الجهود التي تدعمها الولايات المتحدة. وفي منتصف مايو، بدأت وحدات النظام تنتقل إلى المناطق الصحراوية شرق السويداء وحول طريق دمشق - تدمر، بينما توجهت الميليشيات المدعومة من إيران نحو القاعدة الرئيسية في التنف. وقد أرغمتهم غارة جوية أمريكية نادرة على العودة في 18 مايو.
مع ذلك، فإن الولايات المتحدة ليست على استعداد حتى الآن للانضمام إلى مسابقة شاملة للسيطرة على الحدود، ويبدو أنها ترغب في الحفاظ على تركيز ضيق على تنظيم الدولة الإسلامية والسعي إلى شكل من أشكال التفاهم مع روسيا. وفي هذا الصدد، قال جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكي، الذي أكد أن الغارة الجوية في 18 مايو كانت دفاعية بحتة: "لا نزيد دورنا في الحرب الأهلية السورية لكننا سندافع عن قواتنا".
ومن المثير للاهتمام أن الحكومتين السورية والإيرانية قد لجأتا إلى الزئير وابداء الغضب وضرب الصدور، بينما كان الرد الروسي على الغارة الجوية صامتاً نسبياً. بل إن نائب وزير الخارجية سيرجي ريابكوف حرص على تأكيد وصف التحالف الذى تقوده الولايات المتحدة للوحدة التى تعرضت للضرب كمليشيا وليس جزءاً من الجيش الذى تدعمه روسيا. وقال ريابكوف للصحافيين "إنهم ليسوا القوات الحكومية"، على الرغم من اصراره دائماً على أن أي عمل داخل سوريا بدون موافقة الأسد يشكل انتهاكاً للقانون الدولي.
المنافسة أو التعاون؟
قد لا تتفق روسيا بالكامل مع جدول أعمال الأسد وحلفائه الإيرانيين، ولكن في نهاية المطاف، ليس لدى موسكو أي سبب للمراهنة على أي حصان آخر. إن ميزان القوى في شرق سوريا يميل بوضوح لصالح الأسد على المدى الطويل، في حين أن الولايات المتحدة غير راغبة في تحمل تكاليف أي استراتيجية يمكن أن تغير جذرياً هذا التكهن.
من جانبه، قال نيكولاس أ. هيراس، وهو باحث في مركز الأمن الأمريكي الجديد على اتصال منتظم بصانعي السياسة الأمريكيين بشأن سوريا، أن خطط الولايات المتحدة لإطلاق فصائل المعارضة في التنف باتجاه منطقة الفرات تتمحور بشكل رئيسي حتى الآن في سياق العمليات المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية، دون أي وضوح حقيقي حول عاقبة ذلك. وأضاف هيراس، في محادثة عبر الإنترنت مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، أن "الجيش الأمريكي يشترك في حوار حر مع الحكومة الأمريكية، والجيش على علم بالأهمية الأوسع التي تمثلها أراضي شرق سوريا لإحباط خطط إيران".
مع ذلك، من الصعب تصور أن واشنطن سترغب في الالتزام بالسيطرة على جيب للمعارضة على الحدود السورية العراقية إلى أجل غير مسمى، ضد مقاومة من تنظيم الدولة الإسلامية والنظام السوري وإيران والعراق وربما روسيا أيضاً، لأن هذا سيكون بالتحديد ممارسة لدور الشرطي غير المحدود في منطقة الشرق الأوسط التي تتنازعها قوى خارجية، وهو الدور الذي أقسمت الإدارة الأميركية الحالية على تجنبه ويبدو أن معظم الأمريكيين يبغضونه. كما أنه يمثل انقطاعاً جذرياً عن الاستراتيجية الأمريكية الحالية التي حاولت، بنجاح محدود، أن تفصل الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية عن بقية الفوضى المسلحة في سوريا. وفي مؤتمر صحفي عُقد مؤخراً، أشار رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية جوزيف دانفورد إلى أن قواته "يحظر عليها القانون التنسيق مع الروس"، لكنه أضاف أنهما على اتصال دائم حول قضايا تفادي التضارب بين القوات، التي تنطوي على رسم خرائط الهجمات من أجل تجنب الحوادث أو الاشتباكات. وأكد دونفورد أن الولايات المتحدة قد قدمت "اقتراحاً" حول دير الزور "نعمل على دراسته حالياً مع الروس".
على الأرجح، سوف تظل السياسة الأمريكية في شرق سوريا تسترشد بهذه الأنواع من الترتيبات العملية التي تركز على تنظيم الدولة الإسلامية، وستواصل الولايات المتحدة محاولة العمل دون الاتصال المباشر مع الأسد بدلاً من العمل ضده. وقد أعطى هذا الموقف للرئيس السوري وحلفائه فرصة للاستيلاء على زمام المبادرة بعد صفقة أستانا، ولكن مدى انتهاز جيش الأسد لهذه الفرصة لا يزال غير معروف لأسباب ليس أقلها أن الحرب في غرب سوريا يمكن أن تشتعل مرة أخرى في أي لحظة.
* تم فتح طريق برية أكثر التواءً تربط بين العراق وسوريا مؤخراً عبر المناطق الكردية، لكنها تجعل الأسد وحلفائه الإقليميين يعتمدون على تعاون قوات سوريا الديمقراطية، وهذه مشكلة بالنسبة لهم بسبب علاقات قوات سوريا الديمقراطية مع الولايات المتحدة، ولأن الأسد قد يرغب في وقت ما فى استغلال الورقة الكردية لانتزاع تنازلات من تركيا.
al/ag-ais/dvh
(الصورة الرئيسية: طرق تدمر التي زرع فيها ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية الألغام قبل انسحابه من تدمر. وقد استولى الجيش السوري على المدينة من تنظيم الدولة الإسلامية في أواخر مارس 2016. توم ويستكوت/إيرين)