مع استمرار العنف في سوريا وحتى مع بلوغه مستويات جديدة، قد يبدو الحديث عن إعادة بناء البلد المدمر أمراً سابقاً لأوانه، ولكن العمل جار بالفعل، على الأقل في زاوية واحدة من جنوب غرب دمشق.
قد لا يبدو هذا الأمر ذا أهمية الآن - بقع من العشب وطرق ترابية نصف مكتملة تم جرفها عبر البساتين والمزارع - ولكن قطعة أرض مساحتها 3 كيلومترات مربعة في حي بساتين الرازي تتحول بسرعة إلى نقطة الصفر لإعادة إعمار سوريا. ويصفها النقاد أيضاً بأنها خطة التخطيط الحضري الذي يعتزم الرئيس بشار الأسد استخدامه لتعزيز سلطته في مرحلة ما بعد الحرب.
ففي سبتمبر 2012، وقع الأسد المرسوم التشريعي (66/2012) بشأن "إعادة تطوير مناطق السكن غير المصرح بها والمستوطنات العشوائية [الأحياء الفقيرة]". ومنذ ذلك الحين، يوفر المرسوم 66 الأساس القانوني والمالي للتعمير في عدة مناطق استعادت الحكومة السورية السيطرة عليها، بما في ذلك بساتين الرازي.
انظر: إعادة بناء أنقاض سوريا تحت هدير المدافع
افتتح الأسد مشروع إعادة التطوير العمراني الذي تبلغ قيمته عدة ملايين من الدولارات في مارس 2016، ووعد بتصميمات كبيرة ومستقبل متألق للعاصمة. وتؤكد محافظة دمشق، التي تمتلك وثائق تخطيط مليئة بكتل من الأبراج المستقبلية، وشوارع وسط الحدائق، وصفوف متتالية من المساكن ذات الواجهات الحديثة، أن هذا التطوير الحضري الذي تبلغ مساحته 2.15 مليون متر مربع سيوفر 12,000 وحدة سكنية لما يقدر بنحو 60,000 نسمة. وستكون هناك مدارس ومطاعم وأماكن للعبادة وحتى موقف سيارات متعدد الطوابق ومركز تسوق.
ولكن لم يقتنع الجميع برؤية الحكومة للمستقبل. ويقول ناشطون معارضون ومحللون مستقلون، فضلاً عن سكان سابقين، أن المرسوم رقم 66 لا يُستخدم فقط لنزع ملكية المدنيين في بساتين الرازي قسراً، وإنما أيضاً لهندسة تغيير ديمغرافي في المنطقة.
الأرباح والضغوط
تم تمويل المشروع من خلال شركة دمشق الشام، وهي شركة قابضة يبلغ رأسمالها 60 مليار ليرة سورية (279 مليون دولار)، وأنشأتها محافظة دمشق في شهر ديسمبر الماضي بتمويل من مستثمرين من القطاع الخاص يمتلكون أسهماً في عملية التطوير. ويُقال أن هناك ما لا يقل عن 25,000 من الملاك المشاركين في شكل من أشكال الشراكة بين القطاعين العام والخاص التي تحظى بشعبية متزايدة في دمشق.
ويؤكد استشاريون مطلعون على هذا المشروع أن بساتين الرازي، التي كانت في السابق موقعاً رئيسياً للمعارضة وشهدت احتجاجات مناهضة للحكومة (كما في الفيديو أدناه) ومن ثم اشتباكات مسلحة خلال عام 2012، يُنظر إليها على أنها فرصة عقارية مربحة بشكل كبير لسنوات طويلة - الأراضي الزراعية غير المستغلة والإسكان غير الرسمي في بعض الأماكن على مقربة من وسط دمشق. وقد تم نقل بعض أعمال إعادة التطوير الجارية بموجب المرسوم 66 مباشرة من خطة تطوير حضري لدمشق صدرت في عام 2007 ولكن لم تكن الحكومة قد شرعت في تنفيذها عندما اندلعت الانتفاضة السورية في عام 2011.
وقد عُرض على العديد من السكان امتلاك أسهم ومدفوعات للتعويض عن الإجلاء، وذلك لتغطية إيجارات منازل جديدة خارج المنطقة - وإن كان ذلك خاضعاً لبعض الشروط. ولكن حتى الآن، لم يستفد السكان المحليون كثيراً من هذه التغييرات.
وأدت سلسلة من عمليات الهدم منذ توقيع المرسوم في أواخر عام 2012 إلى تغيير طبيعة مساحات سكنية وأراض زراعية في بساتين الرازي تدريجياً، بما في ذلك القطعة التي تضم الآن مقر المشروع، حيث وضع الأسد حجر الأساس قبل 13 شهراً. كما تم إنشاء شبكة من الطرق الجديدة في الموقع.
"لقد قطعت [الحكومة] الكهرباء والماء والإنترنت ولوازم الهاتف. إنهم يجبرون المدنيين على العيش بهذه الطريقة ... لدفعهم إلى اخلاء الموقع"
وقالت الأسر التي فرت ولكنها لا تزال تمتلك بعض الممتلكات في تلك المنطقة لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) أنها لم تحصل على تعويضات. وأخبر أبو أحمد، وهو لاجئ في تركيا هربت أسرته منذ ثلاث سنوات، شبكة الأنباء الإنسانية قائلاً: "منزلنا هُدم، على الرغم من أن مناطق أخرى لم يتم هدمها بعد. أردت دائماً العودة [إلى هناك] ولكن بعد هذه الخطة، أصبح ذلك مستحيلاً".
ويعتقد أقارب بعض أصحاب الأملاك الذين لم يغادروا أن الحكومة تستخدم المزيد من التدابير القسرية تدريجياً لتشجيع الناس من الحي الذي كان مؤيداً للمعارضة على الرحيل.
وفي يونيو 2015، أُرسل تحذير مطبوع إلى مئات السكان يمهلهم شهرين للمغادرة قبل أن تبدأ عمليات الهدم. ووفقاً لموقع "سوريا ديريكت"، تم توزيع مجموعة أخرى من التحذيرات في ديسمبر 2016 قبل تنفيذ المزيد من عمليات الهدم المقرر إجراؤها في شهر يونيو من هذا العام.
وقال أبو خطاب، الذي كان يقيم في تلك المنطقة وأصبح الآن لاجئاً في تركيا أيضاً، أن والديه تلقيا تحذيرات ولكنهما انتقلا في شهر فبراير فقط إلى ضاحية أخرى في دمشق.
وأضاف في حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية: "في الماضي، كانوا يعدون بتوفير مساكن بديلة، لكنهم لم يحترموا هذا الوعد. لقد قطعت [الحكومة] إمدادات الكهرباء والماء والإنترنت والهاتف. إنهم يجبرون المدنيين على العيش بهذه الطريقة ... لدفعهم إلى اخلاء الموقع".
ولم يتسن التحقق بشكل مستقل من ادعاءات قطع الخدمات. ورفض ثلاثة على الأقل من المقيمين في المنطقة الإدلاء بأحاديث خوفاً من السلطات.
أين ستكون الخطوة المقبلة؟
وقد بدأت مدن أخرى بالفعل تحذو حذو دمشق. وتتعامل السلطات المحلية في جميع أنحاء سوريا مع المرسوم 66 باعتباره الضوء الأخضر لتدشين مشاريع إعادة الإعمار الخاصة بها، وذلك باستخدام الصلاحيات الواردة في إعلان منفصل صدر في مايو 2016 لإنشاء شركات استثمار خاصة بها - مثل دمشق الشام - لتمويلها.
وفي عام 2014، أعلن محافظ حمص طلال البرازي عن خطط لإطلاق مشاريع إعادة الإعمار في بابا عمرو، وذلك باستخدام المرسوم 66 كنموذج. وأنشأت المدينة مؤخراً شركة قابضة خاصة بها لإدارة المشاريع العقارية. ويتوقع المراقبون أن تعلن حلب عن شركة قابضة مماثلة قريباً، ومن المرجح أن تعيد تطوير بقايا شرق المدينة الذي كان تحت سيطرة المعارضة والتي تعرضت لقصف شديد.
وتشير التصريحات الحكومية إلى أنه ليس من قبيل المصادفة أن المناطق المخطط لإعادة إعمارها كانت أو لا تزال معاقلاً للمعارضة.
وعندما أعلن الأسد صدور المرسوم رقم 66، أشاد وزير الإدارة المحلية عمر إبراهيم غلاونجي بأنه "الخطوة الأولى في إعادة بناء المناطق السكنية غير القانونية، وخاصة المناطق التي تستهدفها الجماعات الإرهابية المسلحة". وتروج المواد الإعلامية الحكومية عن تطوير البساتين الرازي لحجة مماثلة، وهي أنه بعد رحيل "الإرهابيين"، يمكن البدء في العمل الجاد لإعادة بناء سوريا.
وقد رفضت وزارة الإسكان والأشغال العامة ومديرية المصالح العقارية ومديرية تنفيذ المرسوم التشريعي 66 التعليق على ذلك أو لم تستجب لطلبات شبكة الأنباء الإنسانية للتعليق. مع ذلك، فإن المصادر الموالية للحكومة تصور المرسوم على أنه مجرد حصافة اقتصادية، أو لائحة تسمح بخروج السقالات من تحت الأنقاض حتى يمكن إعادة الإعمار بعد الحرب.
"عندما تكون لديك أماكن لحقت بها أضرار بالغة، فإن تخصيص موارد لإعادتها إلى حالتها الأولى - خاصة إذا لم تكن مخططة بشكل صحيح في المقام الأول - سيكون مضيعة للوقت والمال،" كما أفاد عمار وقاف، المحلل الذي يتخذ من لندن مقراً له وعضو الجمعية البريطانية السورية الموالية للحكومة (التي أنشأها والد زوجة الأسد في عام 2003) لشبكة الأنباء الإنسانية. وأضاف قائلاً: "من المنطقي أن يكون هناك مشروع مخطط له بشكل صحيح. في الواقع، إذا لم تفعل ذلك، فلن تكون قادراً على جذب المستثمرين".
تطهير اجتماعي؟
ويعتزم المخططون الحضريون السماح للجرافات بالعمل قريباً في قطعة ثانية من الأراضي المخصصة لإعادة التطوير بموجب المرسوم رقم 66، وهي تقع على الجانب الآخر من الطريق الدائري الجنوبي في العاصمة. ويشمل هذا الموقع الأكبر بكثير داريا وسلسلة من البلدات النائية الممتدة إلى القدم شرقاً - وهي مناطق المعارضة الرئيسية خلال الأيام الأولى للانتفاضة ومعركة التمرد المسلح التي اندلعت في عام 2012 للاستيلاء على دمشق.
وعندما استسلمت داريا أخيراً وخضعت لسيطرة الحكومة السورية في أغسطس 2016، أُجبر سكانها المدنيون جميعاً على الإخلاء - ووصفت المعارضة ذلك بأنه "تطهير عرقي". وزعمت الشائعات، التي يبدو الآن أن لا أساس لها من الصحة، إلى أن بعض الأسر الشيعية العراقية سوف تنتقل إليها.
وفي العام الماضي، قال ناشط من لجان التنسيق المحلية في كفر سوسة المتحالفة مع المعارضة أن "الغالبية العظمى من السكان [المحليين]" مقتنعون تماماً بأن هذه السياسة البغيضة لطردهم من ديارهم [ذات دافع طائفي] لجذب آخرين من جماعات طائفية ودينية مختلفة للاستيلاء على منازلهم".
ووافق أبو أحمد، المقيم السابق في بساتين الرازي الذي يعيش الآن كلاجئ في تركيا، على هذه النظرية قائلاً أن الحكومة "تريد تغيير التكوين الديموغرافي للمنطقة عن طريق استبدال السكان الأصليين [الأغلبية السنية] بأشخاص من بلد آخر". لكنه لم يستطع تحديد ذلك البلد على وجه اليقين.
لكن آخرين يشككون في صحة التهم الطائفية. وقال وقاف، المحلل الموالي للأسد، أن مثل هذا الكلام يأتي من قوى معارضة "تسعى بيأس لكسب التأييد". مع ذلك، فقد اعترف بأن بعض التغيرات الديموغرافية يمكن أن تلي الحرب - وإن كانت تستند أكثر إلى خطوط اجتماعية وطبقية.
وفي حديثه لشبكة الأنباء الإنسانية بعد وقت قصير من إجلاء داريا في العام الماضي، قال الخبير في الشؤون السورية فابريس بالانش أن مشاريع المرسوم 66 "ستركز أكثر على التطهير الاجتماعي"، وهو عرض الأرض على "البرجوازية السنية والطبقة العليا ... الموالية للأسد".
وأضاف قائلاً: "عندما تطرد سكان داريا، وهم سكان فقراء، حتى تتمكن من بناء شقق وفيلات فاخرة للناس ... فإن الأمر لا يقتصر على الطائفية فحسب، بل إنه صراع اجتماعي".
الماضي والمستقبل
وقد تطورت العلاقات المعقدة بين الطائفية والطبقة الاجتماعية ومعارضة نظام الأسد على مدى عقود، إلى جانب التغيرات السكانية في سوريا.
ومنذ ستينيات القرن الماضي، أدت الهجرة من الريف إلى المدينة - الدائمة والمؤقتة - إلى توسع المناطق النائية على مشارف المدن السورية. ولم تتسارع هذه الهجرة من الريف إلى الحضر إلا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين - وأسهم في تصاعدها الجفاف المدمر الذي شهدته الفترة من 2006 إلى 2010 والذي أجبر عائلات بأكملها على الانتقال لأماكن أخرى.
وغالباً ما يقطن المهاجرون الذين ينتقلون إلى المستوطنات العشوائية إما بشكل غير مشروع على أراض مملوكة للدولة أو يبنون دون تخطيط أو تصريح على أراض خاصة، مما يخلق توترات اجتماعية جديدة في المدن السورية. وقد أضافت سياسات الأسد الليبرالية الجديدة إلى تلك التوترات من خلال استبعاد الضواحي إلى حد كبير من الازدهار الاقتصادي الذي استفادت منه بشكل واضح طبقة رجال الأعمال الأغنياء، الذين غالباً ما يكونون مرتبطين بالنظام في مراكز المدن.
ومع إقامة نحو 40 بالمائة من مجموع السكان في مستوطنات غير رسمية بحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أدركت الحكومة المركزية أنها تواجه مشكلة وبدأت في وضع الخطط والدراسات التفصيلية لإعادة تصميم المدن السورية. ولكن الوقت كان قد فات بالفعل.
وفي السياق نفسه، أوضحت ليلى الشامي، الناشطة البريطانية السورية، التي شاركت في تأليف كتاب عن تاريخ الانتفاضة السورية بعنوان بلد يحترق: سوريون في الثورة والحرب أن "من المهم أن ندرك المكان الذي بدأت فيه حركة الاحتجاج الأولى: في المناطق الريفية المحرومة وهذه الأحياء الفقيرة، المستوطنات العشوائية، المنتشرة في المدن الكبرى".
"كانت مستويات القمع في تلك المجتمعات أقوى بكثير أيضاً. كانت مجتمعات الطبقة العاملة المحيطة بدمشق التي وُضعت تحت الحصار في وقت مبكر جداً ... [وهو شيء] لم يحدث في مناطق الطبقة المتوسطة،" كما أشارت.
لم تقرر دمشق حقاً ما يجب عمله في هذه "الأحياء الفقيرة"، ولكن الحرب غيرت ذلك. وبحلول عام 2012، وبموجب المرسوم 66، يقول الخبراء أن التخطيط الحضري قد تحول إلى سلاح.
وفي حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية، قالت فاليري كليرك، وهي باحثة في المعهد الوطني الفرنسي لبحوث التنمية المستدامة، أن دمشق اعتادت على "تدمير منازل المعارضين، والأماكن التي يمكن للمعارضة أن تختبئ فيها وتحارب ... والتخلص من المستوطنات العشوائية بدون خبراء استشاريين أو اجتماعات".
وقد وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش ولجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة عمليات هدم متعمدة لمئات المنازل في أحياء حول دمشق وحماة بين عامي 2012-2013. وفي إحدى الحالات المبلغ عنها ولكن غير المؤكدة، استخدم مسؤولو المحافظة وثائق تسجيل الأراضي لإبراز منازل الأسر المؤيدة للمعارضة لكي يتم تدميرها. وفي وقت لاحق، بحسب مزاعم مصادر المعارضة، تم تدمير مكاتب تسجيل الأراضي تماماً - في بعض الحالات عمداً - بعد استعادة القوات المؤيدة للحكومة السيطرة على مناطق معينة.
وسيحتاج الاقتصاد السوري إلى إعادة تنشيط، بغض النظر عن التطورات اللاحقة في الصراع، ولكن على خلفية المرسوم رقم 66، ينظر خصوم الأسد إلى إعادة الإعمار، التي قد تبدو وكأنها مجرد تنشيط للتطوير المرتبط بمقدم الأغنياء الموالين للأسد، على أنها عملية مسيسة لنقل السكان.
وكانت إعادة الإعمار مدرجة على جدول أعمال مؤتمر دعم سوريا هذا الشهر، ولكن هذا النقاش لم يجتذب بعد اهتماماً واسع النطاق. وفي هذا الفراغ الخالي من الاهتمام الدولي، يتم التعامل بشكل متزايد مع المناطق التي دمرها الصراع المستمر منذ 6 سنوات والتي شهدت نزوحاً جماعياً على أنها لوحات فارغة يمكن للمسؤولين الحكوميين والمستثمرين والمخططين الحضريين وضباط الاستخبارات وحلفاء النظام رسم رؤاهم الخاصة لمستقبل سوريا عليها.
tr/as/ag-ais/dvh