والتوتر الذي يمتد منذ أمد بعيد بين المنظمات غير الحكومية الدولية الكبيرة التي يقودها الغرب ومجموعات أصغر من المنظمات غير الحكومية المحلية، التي تريد الحصول على دور أكبر في الإغاثة في حالات الطوارئ، اشتد مؤخراً، وأصبح علانية وعلى الملأ في مؤتمر دولي في جنيف.
والجدير بالذكر أن المشاورات العالمية التي تعقد تمهيداً للقمة العالمية للعمل الإنساني المزمع عقدها في العام القادم، والتي تُعد أضخم جهد يبذل خلال عقود لإصلاح طريقة إيصال المساعدات الإنسانية، قد أوصت بوضع الأشخاص المتضررين والمنظمات المحلية في قلب النموذج الجديد للاستجابة الإنسانية.
وجاء التقرير التجميعي الذي صدر مؤخراً، ويضم خلاصة نتائج الاجتماعات التي جرت بمشاركة أكثر من 23,000 شخص، واضحاً لا لبس فيه: نقل السلطة إلى الجهات الفاعلة المحلية ليس ضرورياً فقط، بل مطلب كذلك.
ولكن في جلسة المشاورة العالمية التي عقدت مؤخراً في جنيف، وكانت الأخيرة في سلسلة الحوارات التمهيدية قبيل انعقاد القمة، كشفت المناقشات حول معنى "التوطين" من الناحية العملية، عن وجود انقسامات، والتي سرعان ما تحولت إلى اتهامات بنهج سلوك "استعماري جديد".
"استعدوا للانزعاج"
وتقف في طليعة هذا الجهد للمنظمات غير الحكومية من بلدان جنوب الكرة الارضية، ديغان علي، المديرة التنفيذية للمنظمة الأفريقية للحلول الإنمائية، وهي منظمة غير حكومية تعمل في القرن الأفريقي، ولكنها مسجلة أيضاً في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وفي هذا الصدد، قالت ديغان علي في كلمة أمام ممثلين حكوميين ومسؤولين من الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية: "المنظمات غير الحكومية الجنوبية تطالب بالمرافقة وليس التوجيه ... استعدوا للانزعاج".
وأضافت أن هناك مجموعة من المنظمات غير الحكومية المحلية عازمة على المضي قدماً في خطط تأسيس شبكة من المنظمات الجنوبية، لممارسة الضغط من أجل إنشاء صندوق مُجمع تديره المنظمات التي توجد مقراتها في جنوب الكرة الأرضية، وتهدف أيضاً إلى الحصول على ما يعادل 20 بالمائة من إجمالي التمويل الإنساني للمنظمات المحلية. كما تم توزيع وثيقة من صفحة واحدة (انظر الصورة) توضح مقترحاتها الأولية تدعو فيها إلى تقديم تعويض عندما تستقطب المنظمات الدولية الموظفين المحليين إليها وتتعهد بتغطية تكاليفها العامة.
ووفقاً لمنظمة مبادرات التنمية، من بين إجمالي 4 مليارات دولار المخصصة للتمويل الإنساني للمنظمات غير الحكومية في عام 2014، ذهب أكثر من ثلث هذا المبلغ (1.4 مليار دولار) إلى أكبر 10 منظمات غير حكومية دولية، وأصبحت الكثير منها منظمات عملاقة – مثل وكالات الأمم المتحدة- وتتعاقد من الباطن مع شركاء محليين.وفكرة لإنشاء شبكة للمنظمات الجنوبية ليست جديدة، فقد تعهدت العديد من المنظمات غير الحكومية الدولية فعلاً بتقديم 20 بالمائة من تمويلها للمنظمات غير الحكومية الجنوبية بحلول عام 2020. ولكن ديغان علي وزملاءها يسعون لاستغلال مؤتمر القمة لتصعيد مطالبهم ليتم تمويلها بشكل مباشر، والإعراب عن اعتراضهم حول طريقة معاملتهم المتصورة من قبل المنظمات الدولية. بل إنهم وجهوا أصابع الاتهام مباشرة إلى اتحادات شمولية من المنظمات غير الحكومية مثل المجلس الدولي للوكالات الطوعية، ومنظمة انتراكشن.
وتعليقاً على ذلك، قالت سمروتي باتيل، مستشار المنظمة الأفريقية للحلول الإنمائية: "نحن ننتمي لهذه المجموعات، ولكن قضايانا مهمشة وأصواتنا لا تُسمع ... منظمات الجنوب قادرة على التحدث عن نفسها حول القضايا الخاصة بها. والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية [الدولية] تتصرف على شاكلة السياسات الاستعمارية".
ووفقاً للمنظمة الأفريقية للحلول الإنمائية، غضب المنظمات المحلية لا يتعلق بالشكليات الإدارية بل هو أكثر من ذلك بكثير. إنها، على حد وصف باتل، سئمت من الافتراض بأنها فاسدة، ومن الادعاء بأنها شريكة في حين يتم التعامل معها على أنها مقاول من الباطن، ومن نظام يخفق في تغطية التكاليف العامة ويستقطب الموظفين، ثم يشكك في قدراتها ... إنهم يستغلوننا. هذه ليست شراكة. يجب أن لا تلوم المنظمات غير الحكومية الدولية سوى نفسها على مستويات الاستياء والإحباط...
"عندما تتحدث المنظمات غير الحكومية الدولية بصراحة، ينظر إليها على أنها صريحة فقط. أما عندما نتحدث نحن بصراحة، فيتم اتهامنا بأننا مشاغبون. هذا يذكرني بمعاناتي مع العنصرية".
تحيز ضد المنظمات غير الحكومية الدولية؟
من جانبه، يعترف جويل شارني، نائب رئيس منظمة انتراكشن للسياسات والممارسات الإنسانية، بوجود "بعض الاستياء، والشعور بالتهميش وأننا لسنا شركاء جيدين لمنظمات المجتمع المدني المحلية – هذا الشعور له أساس في الواقع".
ولكن آراء المنظمات غير الحكومية المحلية قد دفعته هو وآخرون إلى رد فعل غاضب – وشعور بالإهانة.
ووصف شارني مشاورات جنيف، التي جذبت أكثر من 1,000 شخصية من العاملين في المجال الإنساني من مختلف القطاعات، بأنها مارست اللياقة السياسية والابتذال وتهميش المنظمات غير الحكومية الدولية – بدلاً من المحلية.
وأضاف أن "المنظمين زوروا الحقائق بهدف الدفع بوجهة نظر تصب في صالح التوطين".
وقالت الأمانة العامة للقمة العالمية للعمل الإنساني أن اتهاماته لا أساس لها من الصحة، وأشارت إلى عدد من المنظمات الدولية غير الحكومية التي تعهدت بالتوطين علناً وفي تقاريرها المقدمة إلى هذه العملية. ولكن لا شك أن المنظمات غير الحكومية المحلية، التي شاركت في المشاورات المؤدية للقمة قبل نظيراتها الدولية تشعر بأن القمة العالمية للعمل الإنساني أتاحت لها منبراً وهي مصممة على اغتنام الفرصة.
وتقول المنظمات غير الحكومية المحلية، بوضوح، أن الإصلاح الإنساني ليس ممكناً دون معالجة ما يعتبرونه تمييزاً مؤسسياً.
ورداً على ذلك، تشعر المنظمات غير الحكومية الدولية بأن هذا إلهاء خطير عن الموضوع الأساسي، حيث تساءل شارني: "في ظل التحديات [التي تواجه قطاع العمل الإنساني اليوم]، هل التحدي الأساسي هو أن نناقش ما إذا كانت المنظمات غير الحكومية الدولية تنتهج سياسية استعمارية جديدة؟"
جاريث برايس –جونز، منسق السياسة الإنسانية في منظمة كير، ليس وحده الذي يرى أن "المشاورات أكدت من جديد أن لدينا النموذج الصحيح" وأن "الأمر الذي نكافح من أجله هو إيصال" المساعدات الإنسانية.
ويشعر آخرون أن بإمكان المنظمات غير الحكومية التأثير بشكل أفضل على عملية الإصلاح من خلال الوقوف جنباً إلى جنب بصوت جماعي واحد.
مراجعة الذات
ولكن العديد من المنظمات غير الحكومية المحلية ترى في هذا الرأي هيمنة غربية ودولية مصممة على الحفاظ على نفسها – في حين تتشدق بفكرة التوطين. فعلى سبيل المثال، تقول باتيل بشكل واضح، أنها هي وزملاؤها سئموا من فكرة إصلاح اتحادات هذه المنظمات الغربية: "كم عدد سنوات التي مرت على إنشاء منظمة انتراكشن؟ 60 عاماً؟ لقد أثبتت أنها لا تمثلنا".
وتطرح المناقشة أسئلة جوهرية حول الدور الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية الدولية، الذي يوشك أن يمثل أزمة وجودية.
وقال أحد ممثلي المنظمات غير الحكومية الدولية: "القمة أجبرت بعض المنظمات غير الحكومية الدولية على النظر في القيمة المضافة التي تقدمها ... لقد نجحت القمة العالمية للعمل الإنساني في تحفيز أفكار كثيرة، وليس مجرد الكلام ... إذا عملت مع شركاء [في دولة] لمدة 50 عاماً، لماذا لا يزال لديك مكتب هناك؟"
ولكن على الرغم من كل هذا النقاش حول الموضوع، ما زالت العديد من المنظمات الإنسانية لا تعرف ما الذي تنطوي عليه عملية التوطين بالضبط. وتساورها مخاوف من الآثار التي قد تترتب على الانسحاب من الميدان، بما في ذلك أن يصبح من الصعب عليها العودة في حالة الحاجة إلى المساعدة الدولية، ويجعلها غير قادرة على مناصرة المحتاجين.
في الواقع، التحديات التي ينطوي عليها إنشاء الشبكة المقترحة من قبل المنظمة الأفريقية للحلول الإنمائية ورفاقها معقدة، ومن غير الواضح ما إذا كانت الجهات المانحة على استعداد لتقديم الدعم الكامل للتمويل المجمع. فالطلب لزيادة نسبة التمويل للمنظمات غير الحكومية المحلية (من قرابة 0.2 بالمائة حالياً إلى النسبة التي تريد أن تصل إليها المنظمة الأفريقية للحلول الإنمائية وهي 20 بالمائة) سيتطلب تغييراً هائلاً في سلوك المانحين.
عراك فوضوي
ويرى البعض أن المناقشة كلها تبدو- على حد وصف إحدى الجهات المانحة - وكأنها "عراك فوضوي".
وفي تغريدة له عبر تويتر، قال جيريمي كونينديك، رئيس مكتب وكالة المساعدة الخارجية في حالات الكوارث في الولايات المتحدة، أن المنظمات غير الحكومية الوطنية تهدر الكثير من الوقت في "انتقاد" المنظمات غير الحكومية الدولية والأمم المتحدة، بدلاً من اقتراح رؤية جديدة لأدوار كل منهما والقيمة المضافة. وأضاف أنه لا ينبغي أن يكون النقاش "لعبة صفرية" لا يربح فيها أحد (واستمرت المناقشة على تويتر منذ ذلك الحين).
من ناحية أخرى، أقرت المنظمات غير الحكومية الدولية، على منصة الاجتماعات في جنيف، بوجود تحديات. وقال إيان ريدلي، المدير العام لمنظمة الرؤية العالمية، في كلمة ألقاها في الجلسة الختامية: "يجب أن تكون المساعدات الإنسانية محلية قدر الإمكان، ودولية حسب الاقتضاء"، مضيفاً "نحن في مجتمع المنظمات غير الحكومية الدولية جاهزون ومستعدون لأن نكون جزءاً من هذا التغيير".ولكن المنظمة الأفريقية للحلول الإنمائية والمنظمات الداعمة لها، مصممون على عدم العودة إلى الوراء.
وختاماً، قالت باتيل: "لا يمكن أن تعلم شخصاً السباحة ثم تمنعه من الوصول إلى حمام السباحة! هذا ليس موقفاً تفاوضياً ... هذه عملية حقيقية".
iw-ha/ag/bp-kab/dvh