دمشق، 16 سبتمبر 2013 (إيرين) - تخرج كاتب هذه السطور حديثاً من جامعة دمشق، وهو ابن لأسرة ميسورة الحال تنتمي إلى أقلية سورية. فضّل الكاتب لدواع أمنية عدم الكشف عن اسمه في هذه اليوميات التي يصف فيها القبض عليه ومغادرته لسوريا لاحقاً.
اتخذت قرار مغادرة سوريا على عجل، دفعني إلى ذلك رؤية ما آل إليه حال والدتي بعدما أُطلق سراحي من اعتقال استمر لمدة اسبوعين.
كنت ناشطاً سياسياً لبعض الوقت، لكن نظراً لانتمائي إلى إحدى الأقليات الدينية السورية، فقد تُركت لحالي، باستثناء استفسارات قليلة من قبل السلطات. فقد اتصلوا بجدي، وهو عضو رفيع المستوى في الحزب الحاكم، وطلبوا منه أن "يثنيني عما أقوم به".
كان هذا أقصى ما في الموضوع- حتى جاء يوم في يوليو 2012. أُلقيّ القبض عليّ في مظاهرة في حي "ركن الدين" بالعاصمة. تم تفريق المحتجين الذين كانوا يغنون ويرددون الشعارات بالذخيرة الحيّة. مكثت لمدة اسبوعين في حبس انفرادي في زنزانة بالطابق السفلي، ولكنني لم أتعرض خلال تلك المدة لسوء المعاملة التي كان يعاني منها الآخرون، بفضل مكانة الأقلية التي أنتمي إليها. مع ذلك، انتهت الفترة التي قضيتها في فرع إدارة أمن الدولة في كفر سوسة بتحذير واضح، حيث قال لي أحد الضباط :"أعلم أنك ترغب في الذهاب إلى إسبانيا للدراسة. اقترح عليك أن تذهب الآن".
لم أكترث كثيراً بما قاله لي إلى أن عدت إلى المنزل ورأيت أمي. لم تعد كما هي، السيدة الأنيقة في منتصف الأربعينيات التي أعرفها. كانت على وشك الموت بعد أن ظلت أسبوعين وهي لا تعرف مكان احتجازي أو كم من الوقت سوف أقبع في السجن. تشققت شفتاها وتورمت عيناها من كثرة البكاء، وفقد جسدها النحيل 15 كيلوغراماً. علمت أنها لن تستطيع تحمل فترة أخرى يُسجن فيها ابنها الوحيد أو، الأسوء من ذلك، يُقتل.
عندها قررت أن أحزم حقائبي وأغادر. لكنني لم أكن مستعداً نفسياً لأن أترك هذا التاريخ الكبير ورائي بهذه السرعة. وحين تدفق أصدقائي لوداعي في إحدى المقاهي، غمرتني عواطف جيّاشة وأنا أرى العديد من صداقاتي، التي تشكلت عبر السنين، توشك على الانتهاء.
قضيت آخر ساعات لي في دمشق مع أختي وأحد أصدقائي، نزور الأماكن المحببة لآخر مرة. كان سوق التوابل في مدينة دمشق القديمة في طليعة الأماكن التي زرناها. إنه مكان ساحر، لاسيّما في الليل حيث تشتم منه نسيم كأنه قادم من الجنة. هناك يمكنك أن تمضي ساعات طوال دون أن تتفوه بكلمة، إذ يكفيك فقط أن تتنفس هذا النسيم. بعدها خضنا تجربة فريدة من نوعها حيث ذهبنا لنشاهد شروق الشمس من المسجد الأموي.
حزمت حقائبي، وفيها بعض ملابسي وكتبي وبعض الهدايا التذكارية، ثم جلست لاحتسي لآخر مرة قهوة الصباح مع والديّ، أشاركهما بعض النكات في محاولة مني لحثهما على الضحك.
حاولت أمي أن تظل رابطة الجأش، لكن نظراً لأن علاقتي بها لم تكن مجرد علاقة أم بابنها بل علاقة صداقة قوية، فقد أحسست بمشاعر الظلم التي تتملكها. كانت تشعر بأنني طُردت من الدولة، ومع ذلك لم تنبسّ بكلمة واحدة. وتمنت لي حظاً سعيداً بدلاً من ذلك، وأوصتني بأن اعتني بنفسي وأن أعود في أقرب وقت ممكن، وألا أقلق على أي شيء آخر.
قاومت دخول سيارة التاكسي التي ستأخذني إلى لبنان. فرحيلي الآن بات حقيقياً أكثر من أي وقت مضى. في غضون ساعة، سأكون خارج سوريا.
أدهشتني قدرة سائقي التاكسي على الثرثرة. شعرت بالإزعاج في البداية لأنني كنت بحاجة إلى السكينة والتأمل وأنا ألقي النظرة الأخيرة على دمشق. لكن في الوقت الذي عبرنا فيه الطريق السريع الذي يربط بين دمشق وبيروت، شعرت بالامتنان لأنه صرف انتباهي.
استغرق عبور الحدود وقتاً طويلاً لأنها كانت تعج بالناس ... أسر بأكاملها حزمت كل ما استطاعت أن تحمله من أغراض وهرولت إلى المجهول ولم تكن مهيأة لذلك تماماً. شاهدت امرأة ترتدي زوج حذاء غير متطابق. لا بد أنها غادرت على عجل أشدّ من حالتي. وهأنذا أوشك على الانضمام إلى حياة اللاجئين.
وسوف يواصل الكاتب مشاركة أفكاره بشكل دوري وفق تطور الوضع في سوريا.
This article was produced by IRIN News while it was part of the United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs. Please send queries on copyright or liability to the UN. For more information: https://shop.un.org/rights-permissions