وقد أدى ظهور الفيروس في سوريا مرة أخرى بعد غياب دام 14 عاماً إلى بدء حملة تحصين ضخمة خاطر فيها العاملون في مجال الصحة والمتطوعون بحياتهم لتوفير اللقاحات وأخذ عينات في خضم صراع واسع النطاق.
ولكن هل عناوين الأخبار الجيدة تروي القصة بأكملها؟ هل يمكن حقاً أن تنتقل سوريا من 36 حالة جديدة في عام 2013 إلى حالة واحدة في عام 2014 ولا حالات على الإطلاق خلال الـ12 شهراً التالية؟ كيف يمكن أن يصبح المسؤولون على يقين إلى هذه الدرجة؟
"إن غياب الأدلة المخبرية على وجود شلل الأطفال لا يعني عدم وجود المرض،" كما أفادت آني سبارو، الأستاذ المساعد في الصحة العالمية ونائب مدير برنامج حقوق الإنسان في مدرسة طب إيكان بمستشفى ماونت سيناي في مدينة نيويورك، والتي قدمت المشورة على مدار العام الماضي لعمال الإغاثة التابعين للمعارضة السورية بشأن الاستجابة لشلل الأطفال.
ومن أهم أسباب تلك الشكوك وجود أوجه قصور في المراقبة، بما في ذلك الفحص والتحقق المتأخران وغير المكتملان لحالات شلل الأطفال المشتبه فيها. وقال خبراء خلال مؤتمر مراجعة شلل الأطفال الإقليمي الذي عقد في العاصمة اللبنانية بيروت الأسبوع الماضي أن النجاحات التي تحققت في العام الماضي ليست مؤشراً على الانتصار في المعركة ضد شلل الأطفال في سوريا أو العراق. وحثوا على استمرار تحسين المراقبة.
الخطر العائد
وفي أكتوبر 2013، بعد أكثر من عامين على بدء الصراع المدني الذي حد من فرص الحصول على الرعاية الصحية ودمر شبكات التوزيع، أكدت سوريا ظهور أول حالة إصابة بفيروس شلل الأطفال البري منذ عام 1999. وفي غضون خمسة أشهر، ارتفع عدد الحالات المؤكدة إلى 36، وفي مارس 2014، تم اكتشاف حالة عبر الحدود في العراق.
وتجدر الإشارة إلى أن عودة شلل الأطفال للظهور من جديد - وهو مرض عضال ويصيب بالوهن، ولكن يمكن الوقاية منه بسهولة - هزت منطقة الشرق الأوسط وأدت إلى تدشين حملة تطعيم إقليمية شاملة تستهدف أكثر من 27 مليون طفل في ثمانية بلدان.
ويزدهر مرض شلل الأطفال، الذي ينتقل عن طريق المياه، في المناطق التي تعاني من سوء حالة الصرف الصحي وسوء التغذية وضعف أنظمة الصحة العامة. ولذلك، تعتبر سوريا والعراق الدولتان المتضررتان من النزاع، وكذلك البلدان المجاورة التي تستضيف لاجئين في أماكن مكتظة، أرضاً مثالية لانتشار المرض.
كما أن عدم وجود تنسيق بين وكالات الإغاثة التي تعمل من خلال العاصمة دمشق التي تسيطر عليها الحكومة وأولئك الذين يعبرون الحدود من تركيا إلى شمال البلاد، الذي يسيطر عليه المتمردون، لأسباب سياسية أدى إلى زيادة تعقيد الاستجابة.
وفي حوار مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قالت سبارو، وهي ناقدة معروفة لأنشطة منظمة الصحة العالمية في سوريا، أنه في حين أن وحدة تنسيق المساعدات، ذراع المساعدات الإنسانية للمعارضة السورية، قد قامت "بعمل رائع"، فإنها اصطدمت بعوائق الوصول وغيرها من التحديات التي حدت من قدرتها على إيصال عينات البراز إلى المختبرات لأغراض التشخيص الرسمي.
وأضافت قائلة: "نحن نعرف أنها ليست قادرة على القيام بمراقبة جيدة في جميع المناطق. في مناطق النزاع وانعدام الأمن، لا يمكننا الاعتماد على التشخيص المختبري لشلل الأطفال، وهذه فجوة واضحة للغاية".
كما أعربت عن ضعف ثقتها في دقة جمع البيانات والإبلاغ عن حالات شلل الأطفال من قبل الحكومة السورية. وأشارت في هذا الصدد إلى أنه عندما تم الكشف عن الحالات الأولى في محافظة دير الزور، حاول المسؤولون نفي أنها إصابات بشلل الأطفال.
ولكن نظراً لعدم وجود مرافق كافية وبسبب التحديات اللوجستية الخاصة بأخذ العينات وتشخيص فيروس شلل الأطفال بشكل صحيح في منطقة حرب، لا يمكن التأكد تماماً من الكثير من الحالات.
ووفقاً لبشير تاج الدين المتخصص في علم الأوبئة في مدينة غازي عنتاب بجنوب تركيا، الذي عمل في شبكة الإنذار المبكر والاستجابة (EWARN) التابعة لوحدة تنسيق المساعدات خلال عام 2014، تم اختبار 62 بالمائة فقط من حالات الشلل الرخو الحاد، التي تمت ملاحظتها في شمال سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة، بنجاح للتحقق من الإصابة بشلل الأطفال.
وقد عكس هذا تحسناً كبيراً عن معدل 17 بالمائة المسجل في عام 2013، لكنه يعني أن أكثر من ثلث الحالات لم تختبر حتى الآن.
شلل الأطفال وتنظيم الدولة الإسلامية |
مسار طويل
يوجد مقر شبكة الإنذار المبكر والاستجابة وفريق عمل مكافحة شلل الأطفال ((PTF التابع لوحدة تنسيق المساعدات في جنوب تركيا، وهما يتتبعان معاً الحالات وينسقان حملة التحصين في شمال سوريا الذي يخضع لسيطرة المعارضة، ويعتمدان على شبكة غير مكتملة من المرافق الصحية والمتطوعين داخل سوريا لتنفيذ التلقيح وإعداد التقارير.
ولكن نظام المراقبة التابع لشبكة الإنذار المبكر والاستجابة لا يحصل على تقارير من جميع المرافق. وعلى الرغم من أن عدد المرافق الصحية في شمال سوريا التي ترسل تقارير إلى شبكة الإنذار المبكر والاستجابة زاد من 70 في منتصف عام 2013 إلى أكثر من 300 في نوفمبر 2014، إلا أن العدد الكلي للمرافق النشطة في تلك المنطقة غير معروف. وقال تاج الدين أنه على هذا النحو، يمكن أن تظهر بعض حالات دون أن يتم تسجيلها أو الإبلاغ عنها.
وفي حين أن نظام شبكة الإنذار المبكر والاستجابة المدعوم من قبل منظمة الصحة العالمية لم يسجل أي حالات شلل أطفال مؤكدة في العام الماضي، فقد تم تسجيل أربعة على الأقل من ما تسمى حالات "متوافقة" (حيث ظهر على المرضى الشلل وأعراض أخرى).
وفي تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، أوضح كريس ماهر، مدير قسم استئصال شلل الأطفال والدعم في حالات الطوارئ في منظمة الصحة العالمية أن "[الحالة] المتوافقة لا تعني بالضرورة أنها إصابة بشلل الأطفال، فالغالبية العظمى منها ليست كذلك. ولكن نظراً لعدم وجود عينات كافية واستحالة التوصل إلى تشخيص بديل، لا يمكنك استبعاد أنه شلل الأطفال".
من جانبها، حذرت سبارو من أنه "عندما تقترب من القضاء على المرض، تريد أن تثبت ... كل حالة".
كما تعتبر وصمة العار المحيطة بشلل الأطفال والإعاقة التي يتسبب فيها عاملاً في تردد الناس في الإقبال على الاختبارات.
"الناس ليسوا خائفين فقط. إن العديد من هذه المناطق قبلية، وفي كثير من الأحيان، لا تدعم [هذه المجتمعات] الحصول على استشارة طبية،" كما أفاد تاج الدين، الذي يشغل الآن منصب المنسق الطبي في المنظمة الكندية الدولية للإغاثة الطبية (CIMRO) في غازي عنتاب.
وفي نوفمبر 2013، دشن فريق عمل مكافحة شلل الأطفال حملة تطعيم تتكون من 6 جولات وتستهدف 1.5 مليون طفل في السبع محافظات التي يتكون منها شمال البلاد. وتم إجراء حملة مماثلة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، نفذتها منظمة الصحة العالمية وتم رصدها من خلال نظام مراقبة مواز، وهو نظام الإنذار المبكر والاستجابة (EWARS)، الذي يختلف عن شبكة الإنذار المبكر والاستجابة.
وفي مختلف أرجاء شمال سوريا الذي تسيطر عليه المعارضة، حيث تندلع بعض أشد المعارك في هذا الصراع وحيث تسيطر الجماعات المتطرفة مثل الدولة الإسلامية (IS) التي نصبت نفسها على مساحات واسعة من الأراضي، تم حشد حوالي 8,500 متطوع محلي لإيصال اللقاحات إلى المنازل مباشرة.
ويتكون كل لقاح من قطرتين يؤخذان عن طريق الفم، وعادة ما يتطلب التحصين الكامل ثلاث جرعات، ولكن نظراً لانعدام الأمن والحركة السكانية الهائلة، فإن الحملة تهدف لإجراء ما لا يقل عن 6 جولات لضمان التغطية شبه الكاملة.
الصعوبات
ولكن على الرغم من بدء التطبيق المثير للإعجاب، كافح المنظمون لتتبع معدلات التطعيم من جولة إلى أخرى. وواجه مسؤولو الرصد حتماً نفس التحديات التي واجهها مسؤولو التلقيح في الوصول إلى بعض المناطق التي يصعب الوصول إليها، مثل تلك التي تقع تحت حصار، وفقاً لعمال الإغاثة الذين تحدثوا إلى شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين).
وقال الهلال الأحمر القطري، الذي راقب الحملة، أن نسبة التغطية بلغت 94 بالمائة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال البلاد.
وكان الإجماع الذي تم التوصل إليه خلال إجتماع المراجعة في بيروت هو "التفاؤل الحذر" بأن تهديد شلل الأطفال في المنطقة قد انتهى، كما أفاد ماهر، بينما اعترف بأننا "لن ندعي أن نسبة التغطية في سوريا بأكملها تجاوزت 90 بالمائة في كل مكان".
ويتأهب المتطوعون لجولات إضافية من التطعيم في بداية الشهر المقبل، بينما تواصل الجهات المانحة ومسؤولو الصحة رصد مؤشرات الحملة.
وفي هذا السياق، قال ماهر: "لدينا الكثير من العمل الذي يجب القيام به، وسيتم تنفيذ المرحلة الثالثة من [الحملة] في النصف الأول من عام 2015. مع ذلك، فإن مغزى الأدلة هو أننا تجنبنا تفشي وباء شلل أطفال ضخم في الشرق الأوسط بفضل معجزة ما".
lr-dc/jd/ha/bp-ais/dvh